في منزل سكني قديم بمنتصف شارع ٢٣ يوليو بمدينة دمنهور في محافظة البحيرة، اتكأ التاريخ على ممراته وبين جنباته، كلما صعدت إلى أعلاه تقترب من ذكريات الزمن الجميل، والتي تشتمها ما بين الدرج والآخر، حتى تقترب من الطابق الثاني وتصطدم بقطع غيار لأجهزة الراديو القديمة التي تجذبك رغم تهالكها ولا تستطيع أن تتركها دون أن يقودك شغفك إلي أن تلتقط لها بعض الصور التذكارية، ليقابلك باب قديم بقِدَم العقار ذاته.. هنا تخترق عالم آخر يفصلك تمامًا عن عالمنا هذا، وتخوض تجربة تحتاج فيها أن تتذكر ذكريات الأجداد وألحان كوكب الشرق وصوت الزعماء أثناء إلقاء البيانات الحربية، والتي تتلخص جميعها في ملامح عم عبد الحميد، صاحب أقدم محل لإصلاح أجهزة الراديو في محافظة البحيرة والذي يشتهر بـ"ملك الردايو".
ذلك المحل الصغير داخل هذا المنزل القديم هو كل ما يمتلكه "عم عبد الحميد"، والذي بمجرد أن تخطوه بقدميك تجد صاحبه في استقبالك بوجه بشوش وعينان تفيض منهما الذكريات وتروي الكثير من القصص والحكايات، ورأس يغطيه الشعر الأبيض، وجسد يظهر عليه الضعف لكبر سنّه، يرتدي ملابس تجمع بين دفئ الزمن القديم وموضة هذا الزمان، حيث يجلس في صالة المحل علي "كنبة" متكئًا وأمامه تلفاز صغير الحجم يُحطه العديد من أجهزة الراديو القديمة من كل جانب، وفي نهاية الصالة غرفة مليئة بأكوام متكدسة من الأجهزة الكهربائية لا تستطيع أن تفرق بين الصالح للاستخدام والتالف، وفي جوار الغرفة "حبل" موضوع عليه ملابسه وفي نهايته كيس به خبز.
"عم جميل" أقدم صاحب محل تصليح أجهزة الراديو
تظل غارقًا في تلك التفاصيل وفي ذلك المنزل البسيط المليء بالذكريات، حتي يفصلك صاحبه بكلمات الترحيب ليبدأ في حديث معك عن عالمه الخاص وكأنه لا يعيش معنا، فتشعر لوهلةٍ أنك لست جالسًا مع صاحب محل أجهزة كهربائية وإنما مع أحد أجدادك، ويفيض عليك بحكاوي وذكريات محفورة في ذهنه لا تموت رغم كبر سنّه، حكاوي تجعلك في دهشة مستمرة وشغف لاستكمال باقي الحديث معه كي تنسى هموم الحاضر وتسافر إلي ذكريات الطفوله وعبق الماضي.
حكاية "عم جميل" أقدم صاحب محل تصليح أجهزة الراديو
"بعد الانتهاء من دراستي في مجال التجارة منذ عام بدأت تصليح أول جهاز راديو مع صديقي المقرب، وأحببت المهنة من حب صديقي لها وبدأت أتجه للعمل بها رغم رغبة والدي العمل في مجال دراستي" بهذه الكلمات بدأ عم عبد الحميد، الذي تجاوز التسعين عامًا من عمره، يسرد لـ"أهل مصر" حكايته مع تلك المهنة، مضيفًا أنه واصل العمل في هذه المهنة كأنه وُلد من أجلها، متابعًا: "كنت بلاقي نفسي وأنا بصلح الأجهزة حتي طريقتي كانت مختلفة تمامًا في التصليح كأني أتحدث مع الأجهزة كأنها شخص أمامي يشتكي همه، وأُداوي جروحها من خلال أدوات التصليح لكي أستطيع تحديد مكان العطل وأعيدها إلي رونقها مرة أخرى ".
حكاية "عم جميل" أقدم صاحب محل تصليح أجهزة الراديو
وتابع: "انعزلت عن العالم كله واخترت استكمال حياتي بين أجهزة الراديو التالف منها والقابل للاستعمال، حتى قرر والدي أن أتزوج وأستقر وأتحمل مسؤولية أسرة للبحث عن وظيفة أخري ولكن بعد زواجي استكملت عملي في هذه المهنة وأنجبت ٤ أولاد واستطعت من خلال عملي بها توفير احتياجاتهم، وبعد وفاة زوجتي عشت وحيدًا بين تلك الأجهزة كأنها تُؤكد لي أني خُلقت لها وخُلقت لي ولا يدوم لي في الحياة غيرها".
حكاية "عم جميل" أقدم صاحب محل تصليح أجهزة الراديو
واستطرد "عم جميل": "من حبي لهذا المجال أصبحت أشهر شخص في مدينة دمنهور في تصليح أجهزة الراديو، وأُطلق عليّ ملك الأجهزة، وعلي مر السنين مفيش جهاز مقدرتش أصلحه، بفضل الله كنت بقدر أتعامل مع كل أنواع الأجهزة الحديثة والقديمة ومن خلال أدوات التصليح المتاحة، بصلح الجهاز في أقل من ٤٨ ساعة، ومر عليّ أشكال مختلفة من أجهزة الراديو واكتسبت خبرات كثيرة، وبعد تصليح كل جهاز، أتوجه مسرعًا لتشغيل إذاعة الشرق الأوسط لسماع أغاني كوكب الشرق وعبد الحليم وفريد الأطرش"، مستطردًا: "لكل جهاز ذكري مميزة بيننا، وهناك أجهزة بعد تصليحها كانت ترفض تشتغل غير علي وقت حفلة أم كلثوم في منتصف الليل، وهناك أجهزة أخري أول ما تشتغل ترفض أي محطة غير محطة القرآن الكريم".
حكاية "عم جميل" أقدم صاحب محل تصليح أجهزة الراديو
وأشار قائلًا: "أيام زمان كانت غير دلوقتي، الراديو كان روح المنازل والمحلات والشوارع، لا يمكن الاستغناء عنه، أما اليوم من غير الراديو يوم من غير حياة، عالم الراديو عالم فريد لا يدركه غير عاشقه زي البحر، تسرح فيه في كل تفاصيله سواء مكوناته أو من يقدمه من برامج وحفلات ومسلسلات، لكن مع مرور الوقت بدأ الإقبال علي تداول الراديو يقل تدريجيًا بظهور التلفزيون والموبايل حتي أصبح وجوده نادرًا لأصحاب الذوق الرفيع في هذا الزمن الملئ بأجهزة تسرق حياتنا بدون ذكريات.. عالم ملئ بالوحدة والوجع والتشتت".
حكاية "عم جميل" أقدم صاحب محل تصليح أجهزة الراديو
ولفت إلي أنه رغم وجود أجهزة حديثة حاليًا إلا أنه حتى الآن مصدره في تلقي الأخبار الراديو، لافتًا إلي أنه عمل في هذه المهنة ٧٠ عامًا، مر عليه أوقات صعبة وأوقات جميلة، ومن أغرب الزبائن التي مرت عليه، زبون رفض أن يُغادر قبل أن يتسلم الراديو الخاص به ونظرًا لأن الجهاز يحتاج إلي بعض الوقت لإصلاحه طلب منه أن يذهب ثم يعود في اليوم التالي لاستلامه لكنه فوجئ بالزبون قد "نام" عنده من كثرة تعلقه بالراديو لأنه كان "بيونس وحدته"، مضيفًا: "مرت أيام صعبة منها لما الشغل قل ولمّا كبرت وبقيت أتعرض للسرقة وأنا عايش لوحدي مش قادر أمنع الحرامية وهي بتسرق أخر فلوس في بيتي وبتسرق التلفون اللي بيخليني أسمع صوت ولادي بعد ما الدنيا شغلتهم عني".
حكاية "عم جميل" أقدم صاحب محل تصليح أجهزة الراديو
وقاطع "عم جميل" الحديث قبل انتهائه، ليقوم ليستكمل عمله في تصليح أحد أجهزة الراديو، موضحًا أثناء مباشرته عمله أن مكونات الراديو غنية بالعديد من العناصر الإلكترونية المهمة منها المقاومات والمكثفات والعديد من العناصر الأخرى، مضيفًا أنه عندما يبدأ في التصليح يتحول إلي شاب في العشرينات يعمل بهمة وحب، وأخذ يوضح طُرق الإصلاح المختلفة بكل بهجة وأمل كأنه يحكي تفاصيل عشيقته وليس طُرق إصلاح الراديو، كأنه يعيش في زمنه "زمن أم كلثوم وفريد الأطرش" وليس زماننا.
حكاية "عم جميل" أقدم صاحب محل تصليح أجهزة الراديو
حكاية "عم جميل" أقدم صاحب محل تصليح أجهزة الراديو
حكاية "عم جميل" أقدم صاحب محل تصليح أجهزة الراديو
حكاية "عم جميل" أقدم صاحب محل تصليح أجهزة الراديو