أعمال أدبيَّة تغوص في أعماق التصوف

التصوف
كتب : وكالات

«أدينُ بدينِ الحُبّ». ربما كان إدماج عَالَم المتصوفة في أعمالٍ أدبية أمرًا شاقًّا، شديد الصعوبة، ليس فقط لتعدد مدارسهم واختلاف طرقهم، وإنَّما لأن الاقترابَ من التجربة الروحية ومحاولة صوغها أمرٌ شديد التعقيد والتركيب. لكنّ الأدب هو المظلَّة التي تحتوي كلَّ المنتجات والمشاعر الإنسانيَّة، فإذا كان التصوف هو توقُ الروح إلى عالمٍ رحبٍ وشفافٍ من الجمال، فإنّ الأدبَ هو توقٌ آخر، من نوعٍ آخر إلى عالمٍ رحبٍ وشفافٍ من الفنِّ والجمالِ والرقة.

هل تخيَّلتَ يومًا أن ينهار عالمك الذي شيدتهُ طيلة عشرين عامًا؟! ماذا إذا كان هذا العالم المشيَّد، والذي ينهارُ فجأةً، هو عالمٌ عباديٌّ كامل، الدرويش أحمد نورُ الدين، شيخ تكيَّة الدراويش الصوفيين، الذي هرب من عالمهِ تمامًا ليتدثَّر بالتكيَّة، وبنظام الدراويش الصارم، حتَّى أصبح شيخًا لهذه التكيَّة، لكنّ الحياة «أو الواقع كما يظهر في الرواية» لا تتركهُ في حاله، فحدثٌ كاحتجاز أخيه في السجن دون وجه حقّ.. حدثٌ صغيرٌ بالنسبة لما يحدث في العالم، ولكنَّهُ كبيرٌ في الآنِ نفسه، فقط لأنَّ الحدث يمسُّ حياة الشيخ أحمد نور الدين. هذا الخطّ الفاصل بين التجرُّد الكامل وبين طبيعة النفس الإنسانيَّة شديدة التعقيد، والتركيب، والذاتيَّة.

ماذا يمكن أن يفعل الشيخ أحمد نور الدين لينقذ حياة أخيه؟ هل سيكذب من أجل محاولات إخراجه أم لا؟ هل سيقوم بأفعالٍ كان يعتبرها مشينة، كأن يقوم للقاضي بخدمةٍ تتصام مع أخلاق الدراويش الصارمة، من أجل أن يخرج أخيه فقط من السجن، أم أنه سيظلُّ على ميزانه الأخلاقيّ الصارم. الرواية تنطلقُ من حدثٍ واحد هو سجن أخي الشيخ أحمد نور الدين، وتدخل من خلالهِ في أعماق النفس الإنسانيَّة البعيدة، لتحاول أن تعرف إجابة الأسئلة المحيرة: الشرّ والخير، الله والشيطان، النفس والحياة، الواقع والمثال، السلطة والعدالة!

الرواية تدور في القرن التاسع عشر، في سراييفو عندما كانت تحت الحكم العثمانيّ، وكاتبها هو محمد ميشا سليموفيتش. أحد أشهر وأبرز الكتَّاب البوسنويين.

تذكرتُ ما كان القناوي -رحمهُ الله- يقوله لي دومًا: اخلع من نفسكَ حَظَّ الهوى. فكنتُ أرد عليه باسمًا: له نصيبٌ في كل قلب يا شيخنا، فكان يربتُ على قلبي ويقول: قصدتُ الجري فيما لا طائل منهُ، والنظر إلى ما في يد غيرك، وتعجُّلُ بلوغِ كل شيء قبل الأوان.

في أواخر أيام حكم المماليك لمصر، قام الشيخ القناوي بمريديه وخرج على السلطان، لكنّ حركتهُ باءت بالفشل وتفرَّق مريدوهُ بين الأقطار، وسجنوا وقتلوا، وتشَّردوا تمامًا. بطل الرواية هو «عاكف»، أحد مريدي الشيخ القناوي، الذي تاهت مساراته عندما انتهت حركةُ شيخهِ وأصبح هائمًا محتارًا لا يلوي على شيء. كيف قابل شيختهُ، التي أحبَّها وأراد أن يتزوجها، لكنَّها لم تقبل، وأعطتهُ «العهد» قبل رحيلها بيومٍ واحد. كيف تتورط النفس الإنسانيَّة في الأحكام على الآخرين، بينما قد يكونَ الآخرونَ أفضلَ منها كثيرًا، لترى «حفصة»، التي كانت نفسك تعتبرها سيئة الأخلاق، وقد أصبحت شيختك يومًا ما يا عاكف!

حياتك حافلة، مليئة، كاملة، أو هكذا يخيل إليك، حتى يظهر فيها شخص يجعلك تدرك ما كنت تفتقده طوال هذا الوقت. مثل مرآة تعكس الغائب لا الحاضر، تريك الفراغ في روحك، الفراغ الذي كنت تقاوم رؤيته.

كيف كانت حياة جلال الدين الرومي حافلةً قبل وصولِ شمس الذي يقولُ عنه «وهناك صحبةٌ كأنَّها فصلُ الربيع»، وكيفَ أصبحت بعد أن ظهر شمس بشخصيتهِ الحادَّة، والمنطلقة، والعارمة في آن. الشخص الذي دخل حياة جلال الدين الرومي، العالم والفقيه، فأخرجَ منهُ جلال الدين الرومي الشاعر الذي ملأ العالم حبًّا وسلامًا.

في طريقةٍ روائيةٍ بديعة تكتب إليف شافاق، روايتها، التي مزجت ما بين الحاضر والماضي البعيد، عبر ربَّة البيت الكئيبة والحزينة، والتي تهرب من بؤس حالها وحياتها المأساوية، والرتيبة إلى براح المحبَّة، عبر معرفتها بشخصٍ غريب، حياته عبارة عن طاقة من المحبة والحركة.

الناسُ أجناس والنُّفوسُ لباس، ومن تلبَّس نفسًا من غَيرِ جِنسِهِ.. وَقعَ في الالتباس!

بعد رجوع بهاء طاهر، الأديب المصري المعروف، لكتاب «المواقف والمخاطبات» للنفري، وبعض كتب التراث الصوفي، كتب هذه الرواية في إطارٍ من الاعتماد على هذه الكتب. ما هي نقطة النور في كلٍّ منَّا؟ الروح.. والجسد، والثنائيَّات، ما الذي سيصلُ إليهِ الباشكاتب توفيق الذي يقيم أمام جامع السيدة زينب، يتلمَّس الكاتب في هذه الرواية خيوطًا من شخصيات مركبة ومتناثرة، ما بين الباشكاتب وابنه وحفيديهِ (سالم ولبنى)، ثمّ أبو خطوة صاحب الكرامات، بين كل هؤلاء أين هي نقطة النور إذن؟!

من المعروف عن نجيب محفوظ أنَّ لهُ نَفَسًا صوفيّةً، ربما بسبب نشأته المبكرة في حي الحسين بالقاهرة. في هذا الكتاب، يعتمد نجيب محفوظ على أسلوبٍ أدبيّ مغاير بعض الشيء، شبيه بتقنية القصص القصيرة جدًّا، وفي نهاية الكتاب يكرس نجيب محفوظ جزءًا كبيرًا للشيخ عبد ربه التائه، الذي يلخص الكثير من الحكمة في عباراتٍ مقتضبة وموجزة للغاية.

المسرحية الشعرية الأشهر في العالم العربي، تحكي قصَّة الحسين بن منصور الحلاج، الذي كان معارضًا للخليفة، فقام الخليفة بصلبه، وتقطيع أطرافه، ثمّ قطع رأسه وحرق جثته ليذرّ رمادها في نهر دجلة! هذه القصَّة حركت شاعريَّة صلاح عبد الصبور، الذي يعرضها في إطارٍ شيق، يمزج ما بين زاوية الفساد الديني حينما يرتبط بالفساد السياسي، وسياق العداوة بين الفقهاء والمتصوفة، ثم سياق النور الشفيف الذي يخرجُ من قلب المؤمن.

وهذه هي أوَّلُ قاعدة اختطها قلم الشيخ «محمد تحسين النقشبندي النقشداري»، شيخ مدرسته الصوفية في العراق، والذي يقيمُ بمصر حاليًا. في هذه الرواية يحكي الشيخ تجربتهُ الروحيَّة والتي كان شيخهُ فيها الشيخ «السيد طالب»، تلميذ علامة العراق السيد عبد الكريم المدرس، يغوص الكاتب في التاريخ الصوفي، ذاهبًا إلى دمشق في رحلةٍ لمتصوفٍ آخر لا يُعرف اسمه، نَهَلَ من معين الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي وعلومه. وفي آفاقٍ أخرى، كيف كانت العراق في الثمانينيات؟ وكيف مزقتها الطائفية، وكيف كان القتل يحدث على الاسم، لمجرد أن اسمك عُمر أو علي!

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً