في كتاب "إحياء ذاكرة المصريين" للدكتور جودة عبد الخالق الصادر مؤخرا عن دار "العين" يحاول المؤلف تذكير القارئ بالعديد من المقالات التي سبق له نشرها في بعض الدوريات والصحف، وهي المقالات التي تحدث فيها عن الكثير من المشكلات التي تواجه الوطن، سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي، أو الاقتصادي باعتباره متخصصا في الاقتصاد، كما شغل منصب وزير التضامن والعدالة الاجتماعية، ثم منصب وزير التموين والتجارة الداخلية بعد ثورة يناير خلال الفترة من فبراير 2011م حتى أغسطس 2012م.
يُقسم المؤلف كتابه حسب الموضوعات التي تتحدث عنها مقالاته؛ فأتت الفصول متناسقة حسب موضوعاتها في وحدة عضوية واحدة، فالفصل الأول يكون بعنوان "وطنيات"، ثم "تأملات"، و"العدالة الاجتماعية"، و"الاستبداد والفساد"، و"الإصلاح"، لينتهي بالفصل السادس بعنوان "المشروعات القومية"، وهي الفصول التي ضمت مقالات له في الفترة من 1998م حتى 2015م، ورغم أن هذه المقالات قد مرّ عليها فترة طويلة، إلا أن القارئ لها سيشعر بأنها ما زالت طازجة تتحدث عن نفس المشكلات التي تمر بها مصر وكأنها لم يمر عليها أيام منذ كتابتها؛ وإن كان هذا يدل على أننا مازلنا نغرق في نفس المشكلات التي لا يوجد لها حلول جذرية حقيقية سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي.
في مقاله المهم "الدعم والخطوط الحمراء" يتحدث جودة عبد الخالق عن مشكلة الدعم التي لا تنتهي، وهي المشكلة التي ترغب كل الحكومات والرؤساء المتتالين على مصر في رفعه عن المواطن المطحون الذي لا يجد قوت يومه، فيقول: "كثر اللغط وتعددت التصريحات من جانب الحكومة ووزرائها حول ما يسمونه ترشيد الدعم وضمان وصوله إلى مستحقيه"، ولعل هذه الأقاويل التي ترددها الحكومات المتعاقبة على مصر هو نفس الكلام المحفوظ الذي لم يختلف من حكومة لأخرى، حتى لكأنهم يحفظون نفس الكلمات وبنفس الصياغة التي لا تختلف؛ لذلك حينما نقرأ في مقال عبد الخالق قوله: "الفقراء يئنون تحت وطأة الفقر والبطالة والغلاء. ولقد أصبحت طوابير الخبز تزداد طولا كل يوم، وصار المواطن الفقير يتعرض للمهانة والإهانة وتعطيل المصالح للحصول على رغيف العيش الذي أصبح مصدر غذائه الوحيد، بعد أن وصلت أسعار اللحوم والأسماك والفواكه والخضروات إلى عنان السماء بفضل سياسات الحكومة الخرقاء"، أقول أننا حينما سنقرأ هذا الحديث لا يمكن أن يتوارد إلى أذهاننا أنه مقال كتبه في عام 2005م؛ ومر عليه كل هذا الوقت؛ لأن نفس هذه المعاناة ما زال يعانيها الشعب المصري يوميا، كما أنها ازدادت وطأة عليه بعدما تضاعفت الأسعار عدة مرات، كما تضاعفت معاناته في سبيل الحصول على لقمة العيش التي تسد أوده هو وأطفاله.
يتحدث عبد الخالق عن سعر صرف الجنيه المصري مقابل سعر الدولار، ويؤكد أن سياسات البنك المركزي المصري في تحريك سعر الصرف؛ من أجل القضاء على السوق الموازية هو مجرد تهديد للعدالة الاجتماعية وزيادة الفقراء فقرا، فيقول: "الملاحظ أن البنك المركزي المصري يركز كل اهتمامه على تحقيق ما يُسمى السعر التوازني للجنيه إزاء الدولار، وهو هنا يجري وراء سراب. بل إنه يرقص على إيقاع تجار العملة، والآن بلغ احتياطي النقد الأجنبي مستوى حرجا يُعادل بالكاد قيمة واردات ثلاثة شهور فقط"، إنها نفس المشكلة التي مازال يعاني منها الاقتصاد المصري الذي ينهار يوما بعد يوم لاسيما بعد وصول سعر الجنية أمام الدولار اليوم حوالي إحدى عشر جنيها؛ مما يدل على انهيار حقيقي للاقتصاد المصري؛ لذلك يُطالب عبد الخالق- وهو رجل اقتصاد يعي ما يقوله-: "استخدام مصر حقها كعضو في منظمة التجارة العالمية، ونكرر مطالبتنا للمسئولين عن إدارة الاقتصاد في المحروسة بالبدء في اتخاذ تدابير لتقليل الواردات طبقا لما تسمح به المادة 18 من اتفاقية الجات. وللعلم فإن هناك دولا أخرى لجأت إلى ذلك في مواجهة ظروف أقل صعوبة من الظروف التي تواجهها مصر حاليا. نذكر على سبيل المثال حالة "نيكاراجوا" في أعقاب الأزمة المالية العالمية عام 2009م. أما التشدق باقتصاد السوق الحر والتهاون في استخدام حقوق مصر في إطار منظمة التجارة العالمية، فسيدفع قيمة الجنيه المصري إلى الهاوية. وسيفرض ذلك أعباء شديدة على الأغلبية الساحقة من الفقراء ومتوسطي الحال".
إذا انتبهنا إلى أن هذا المقال كتبه عبد الخالق في 2015م وكان سعر الصرف حينها في البنك 7.75 مقابل الدولار، وأن سعر الجنيه اليوم 8.88 في البنوك بينما في السوق الموازية بلغ 11 جنيها مصريا؛ فهو يدل على السياسات المتخبطة التي تلجأ إليها الحكومة المصرية وأن الاقتصاد بالفعل وقع في هاوية حقيقية، بل هو يدل على أن ما ذهب إليه عبد الخالق في مقاله مازال طازجا وواقعيا وحقيقيا بأن الدولة تستخدم سياسات اقتصادية تؤدي إلى تدمير الاقتصاد المصري.
يتناول المؤلف في كتابه العديد من المشكلات التي يعاني منها المجتمع المصري، وإذا تأملنا ما يقوله لتأكدنا أن هذه المشكلات مهما طال عليها الزمن فنحن نعيش في أسرها لا يمكن لنا الخروج منها، بل لا يوجد حل حقيقي وجذري لها مهما طال الزمن؛ ففي مقال كتبه في 2000م بعنوان "طائلة القانون" يتحدث عن الكثير من التحذيرات الموجهة للمواطنين حتى لا يقعوا تحت طائلة القانون، وهنا يتحدث عن مروره في شارع رئيسي في قلب القاهرة وقراءته لافتة معدنية تزيد مساحتها على المترين بالتمام والكمال تقول: "استعمال آلة التنبيه دون مبرر يضعك تحت طائلة القانون"، ورغم كبر مساحة اللافتة، ورغم التحذير يقول: "المذهل أنه رغم أن المرور كان هادئا؛ لانشغال الناس بأمر خطير هو متابعة مباراة لكرة القدم، اندفعت معظم السيارات وهي تطلق أبواقها دون مبرر، ودون الوقوع تحت طائلة القانون. ضحكت. وشر البلية ما يضحك. وتساءلت: أين قانون المرور الجديد؟ وأين طائلته؟ فأجابوني: إن سيادة القانون في إجازة للاستمتاع بمتابعة مباراة كرة القدم"، هنا يسخر عبد الخالق من الوضع الفوضوي الذي نعيش فيه قائلا: "نكاد ننفرد بين شعوب العالم بهذه الظاهرة العجيبة. وأقترح استثمارها للترويج السياحي! نصدّر قوانين صارمة في كل مجال، ثم نبطل مفعولها ونُدير لها ظهرنا ونُخرج لها لساننا. الكل يفعل ذلك، ولكن الطامة الكبرى هي أن يتصدر الكبار جريمة اغتيال القانون. خذ مجلس الشعب الذي يصنع القانون. هو أول مخالف للقانون برفضه تنفيذ الأحكام القضائية ببطلان عضوية عدد ليس بالقليل من أعضائه، بادعاء أن المجلس الموقر "سيد قراره". والحكومة هي أكبر مخالف للقانون برفضها المتكرر تنفيذ الأحكام القضائية لصالح المواطنين".
هل اختلف الأمر بين عام 2000م وهو العام الذي كتب فيه المؤلف هذا المقال وبين ما نحيا فيه اليوم من أوضاع عبثية، أم أن الأمر ازداد عبثا فوق عبثيته وباتت مخالفة القانون هي القانون الحقيقي، بينما الالتزام به هو الشاذ وغير الطبيعي من الأمور؟
لعل انتباه جودة عبد الخالق في مقالاته المهمة التي يتناول فيها ظواهر ومشكلات المجتمع المصري، ومحاولة تقديم بعض الحلول لها أو حتى مجرد لفت الانتباه إلى هذه الظواهر السلبية من الأمور المهمة التي نحن في حاجة إليها، ولكن رغم مرور سنوات طويلة على هذه المقالات لم يتجدد أي شيء، ولم ينصلح أي شيء في المجتمع المصري الذي يزداد سوءا كل يوم، وكأن كل من يحاول الإصلاح أو الانتقاد إنما يتحدث مع ذاته ولا يوجد من يستمع إليه أو يحاول الحل، ففي مقال "من يدفع الحساب" المكتوب في 2001م نراه يتحدث عن سلبية وفساد لا ينتهي وما زلنا نحياه حتى اليوم رغم قيام ثورتين للقضاء على الفساد المستشري بيننا، وهو هنا يتحدث عن الإعلانات الكثيرة المنتشرة في الصحف القومية ومنها إعلانات التهاني؛ فيتحدث عن إعلان يأخذ صفحة كاملة في جريدة الأهرام يقول: "إن شعب أسيوط والقيادات السياسية والشعبية والشبابية والمجموعة البرلمانية لمجلسي الشعب والشورى للحزب الوطني الديمقراطي يتقدمون بخالص الشكر وعظيم التقدير للسيد القائد والزعيم الرئيس/ محمد حسني مبارك بتجديد الثقة الغالية للسيد اللواء أحمد همام عطية محافظا لأسيوط، ويسعدهم أن يتقدموا لسيادته بأخلص التهاني القلبية لاستكمال مسيرة التنمية والعمل الوطني ومتمنين لسيادته دوام التوفيق حتى تتحقق على يديه آمال المواطنين لشعب أسيوط ويتقدمون للقائد الزعيم محمد حسني مبارك بأخلص التهاني القلبية بمناسبة أعياد ثورة يوليو 1952م المجيدة"، هنا ينتهي نص الإعلان الذي يتحدث عنه جودة عبد الخالق وهنا يبدأ في طرح تساؤل مهم لابد منه فيقول: "المؤكد أن هذا الإعلان تكلف عشرات الآلاف من الجنيهات، فمن الذي دفع هذه الفاتورة؟ هل دفعها السادة المعلنون عن أنفسهم من جيوبهم؟ أم أنها دُفعت من مال شعب أسيوط المطحون؟ وللعلم فإن محافظة أسيوط هي من أفقر محافظات مصر وأكثرها تخلفا".
لكن هل توقفت هذه الإعلانات المحابية للعديد من القيادات السياسية أو السيد الرئيس؟ للأسف مازالت هذه الإعلانات التي نراها كل يوم في الصحف القومية وهي الإعلانات التي يدفعها المواطن الفقير الذي لا يجد قوت يومه.
كتاب "إحياء ذاكرة المصريين" تأتي أهميته الحقيقية إلى أنه بالفعل يعمل على إحياء ذاكرتنا بالعديد من المقالات التي تنتقد الوضع البائس الذي يحيا فيه المصريون، ومحاولة تقديم بعض الحلول لهذه الأوضاع العبثية؛ ولعلنا نلحظ أن جميع المقالات مهما مرّ عليها الوقت الذي كُتبت فيه فهي ما زالت طازجة وكأنها كُتبت اليوم.