من منا لا يعرف الرازي والخوارزمي والكندي والفارابي والبيروني وابن سيناء وابن الهيثم ؟. ومن منا لم يسمع بالغزالي وابن رشد والعسقلاني والسهروردي وابن حيان والنووي وابن المقفع والطبري ؟. ومن منا لم يقرأ لافتات المدارس والمعاهد والسفن والمراكز العلمية والأدبية التي حملت أسماء الكواكبي والمتنبي وبشار بن برد ولسان الدين الخطيب وابن الفارض ورابعة العدوية والجاحظ والمجريطي والمعري وابن طفيل والطوسي وابن بطوطة وابن ماجد وابن خلدون وثابت بن قرة والتوحيدي ؟.
لا شك إننا تعرفون هذه النخبة المتألقة من الكواكب المتلألئة في فضاءات الحضارة العربية التي أشرقت بشموسها المعرفية الساطعة على الحضارة الغربية، ولا ريب إننا تتفاخرون بهم وبانجازاتهم العلمية الرائعة في الطب والفلسفة والفيزياء والكيمياء والرياضيات وعلم الفلك والهندسة والفقه وعلم الاجتماع والفنون والآداب, وكانوا أساتذة العالم فكرا وفلسفة وحضارة, وتعلمون إن عواصم كوكب الأرض تسابقت فيما بينها لإصدار باقات من الطوابع البريدية الجميلة لإحياء ذكراهم, فحلقوا فوق سحب القارات السبع, ونشروا رسالتهم المعبرة عن مشاعرهم الإنسانية الصادقة بين الشعوب والأمم على اختلاف ألسنتهم ودياناتهم.
لكننا لا نعلم حتى الآن إن هؤلاء العلماء الأعلام صدرت ضدهم سلسلة من الأحكام التكفيرية بقرارات ونصوص متطابقة بالشكل والمضمون مع قرارات محاكم التفتيش، التي كفرت "جاليلو- وجيوردا- ونويرنو- وكوبرنيكس- ونيوتن- وديكارت- وفولتير" وحرمت قراءة كتبهم، وبالغت في مطاردتهم وتعذيبهم والتنكيل بهم، فلا فرق بين تلك الأحكام التعسفية الجائرة، وبين الأحكام الارتجالية المتطرفة، التي ضللت الناس, وحرضتهم على قتل الطبري، وصلب الحلاج، وحبس المعري، وسفك دم ابن حيان، ونفي ابن المنمر، وحرق كتب الغزالي وابن رشد والأصفهاني، وتكفير الفارابي والرازي وابن سيناء والكندي والغزالي، وربما لا تعلمون أن السهروردي مات مقتولاً، وإنهم قطعوا أوصال ابن المقفع، ثم شويت أمامه ليأكل منها قبل أن يلفظ أنفاسه بأبشع أنواع التعذيب، وأن الجعد بن درهم مات مذبوحا، وعلقوا رأس"أحمد بن نصر" وداروا به في الأزقة، وخنقوا "لسان الدين بن الخطيب" وحرقوا جثته، وكفروا "ابن الفارض" وطاردوه في كل مكان.
أغلب الظن أن عامة الناس لا يعلمون بما قالوه عن "ابن سيناء" الطبيب والعالم والفقيه والفيلسوف، ولا يعلمون بما قاله عنه ابن القيم في (إغاثة اللهفان 2/374)، حين قال: ( إنه إمام الملحدين الكافرين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر)، وقال عنه الكشميري في (فيض الباري 1/166): ( ابن سيناء الملحد الزنديق القرمطي)، وقال عنه الشيخ صالح الفوزان: (إنه باطني من الباطنية، وفيلسوف ملحد).
ولا يعلم الناس بما قالوه عن أبي بكر الرازي، الطبيب والعالم والفيلسوف، حين قال عنه ابن القيم في (إغاثة اللهفان 2/179): ( إن الرازي من المجوس، وإنه ضال مضلل).
وقال ابن العماد في (شذرات الذهب 2/353) عن الفارابي: ( اتفق العلماء على كفر الفارابي وزندقته)، وقالوا عن محمد بن موسى الخوارزمي: (إنه وإن كان علمه صحيحا إلا أن العلوم الشرعية مستغنية عنه وعن غيره)، وقالوا عن عمرو بن بحر الجاحظ: ( إنه سيء المخبر، رديء الاعتقاد، تنسب إليه البدع والضلالات)، وقال عنه الخطيب بسنده: ( إنه كان زنديقا كذابا على الله وعلى رسوله وعلى الناس)، وقالوا عن ابن الهيثم: (إنه كان من الملاحدة الخارجين عن دين الإسلام، وكان سفيها زنديقا كأمثاله من الفلاسفة)، وقالوا عن أبي العلاء أحمد بن عبد الله المعري: ( إنه كان من مشاهير الزنادقة، وفي شعره ما يدل على زندقته وانحلاله من الدين)، وقالوا عن نصير الدين الطوسي: ( إنه نصير الشرك والكفر والإلحاد).
وقالوا عن محمد بن عبد الله بن بطوطة: (إنه كان مشركا كذاباً)، وشتموا يعقوب بن إسحاق الكندي، وقالوا عنه: (إنه كان زنديقا ضالا)، فقال عنهم: ( هؤلاء من أهل الغربة عن الحق، وإن توجوا بتيجان الحق دون استحقاق، فهم يعادون الفلسفة ذبا عن كراسيهم المزورة، التي نصبوها من عير استحقاق، بل للترؤس والتجارة بالدين, وهم عدماء الدين)، وكان يرى: (إن في علم الأشياء بحقائقها علم الربوبية، وعلم الوحدانية، وعلم الفضيلة، وجملة علم كل نافع، والسبيل إليه)، وكان يعتقد إن السعي لمعرفة الحقيقة هو مقصد جميع الأنبياء والرسل، وليس فقط الفلاسفة، وبالتالي فإن الفلسفة ليست كفراً، على عكس ما يقولوه عدماء الدين.
لسنا هنا بصدد الدفاع عن هؤلاء العلماء الذين غادروا الدنيا منذ أكثر من ألف عام، وسجلوا أسمائهم في سجلات الأمجاد العلمية بحروف من نور، لكننا نخشى أن تفسر نهضتنا العلمية القديمة على إنها عبارة عن امتداد فكري للثقافات الموروثة من العصور البابلية والسومرية والأكدية والأشورية والفرعونية والفينيقية والرومانية والفارسية، أو إنها بذرة منقولة من الحضارات الأخرى غرست في بيئة لا تنتمي إليها, ولا علاقة لها بالثقافة الإسلامية، على الرغم من إن الإسلام أول الأديان التي جعلت العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة, وحثت المسلمين على شد الرحال لطلب العلم ولو كان خلف أسوار الصين، وبناء عليه فان محاولات تكفير هذا الجمع الغفير من العلماء الأعلام، وتشويه صورتهم بهذه الأساليب البدائية الرامية إلى تجريدهم من هويتهم الإسلامية تتقاطع تماما مع الشعار الذي رفعه الإسلام عندما أكد على مواصلة طلب العلم من المهد إلى اللحد, وتمهد الطريق لتراجع مساهمات العرب في إنتاج وتطوير وتحديث منجزات العلوم والفنون والآداب.
والاستنتاج الوحيد الذي يمكن نخرج به, هو إن الدعوات التي استهدفت تكفير العلماء في الماضي والحاضر تهدف في حقيقتها إلى تكريس الجهل والتخلف, ومصادرة محفزات الإبداع من المجتمع العربي, وحرمانه من حقوقه الإنسانية, بحيث يصبح غير قادر على مواجهة التحديات, وربما تدفعه إلى التقهقر والتراجع نحو العصور المتزمتة المتشددة المتصلبة، بالاتجاه الذي يرمي إلى كبح جماح حرية الفكر والعودة بها إلى حظيرة الفترة المظلمة، التي خسرنا فيها كل شيء تقريبا, ولكي تتضح الصورة أكثر، نذكر إن أغلب الفتاوى المعادية للرعيل الأول من العلماء، حصرت صفة أهل العلم على المشتغلين فقط في مجالات الفقه والخطاب،, وحفظ وتلقين النصوص الفقهية.