ربما تمتلئ رواية "سكان جزيرة القرش" بالكثير من الحكايا التي حولها صانعً ماهرً إلى خيوطٍ مشوقة، شكلت جلباباً درامياً يليق بإحتواء تلك الحكايا، ولكني هنا، في هذا المقال، أحاول فقط وبعيداً عن أي نقد أن أخبرك- عزيز القارئ- أنَّ " سكان جزيرة القرش" ستنشط ذاكرتك إذا كنت قروياً، أما لو لم تكن نشأتك في قريةٍ فستنقلك هذه الرواية من البنايات الإسمنتية الصلبة البخيلة في منح المشاعر إلى رائحة الطين.. هناااااك.. في القري.
ببراعة وخبرة تمكن الكاتب والروائي الدكتور حمدي النورج، أستاذ النقد الفني بأكاديمية الفنون، أن يجعل مشهداَ بسيطاً، بلغته السهلة والمتمكنة دافعاً كبيراً ومحفزاً لذاكرتي الطفولية، ففي المقطع التالي من الرواية الممتعة "سكان جزيرة القرش"، والذي جاء تحت عنوان "وهناك أوصاف أخرى" يقول المؤلف:
"كلب الحاج محمود الذي ظل شهرًا كاملًا باسطا ذراعيه لكلبة سوداء جاءت مع بعض البدو الذين كانوا يتنقلون داخل أراضي الزمام طلبًا للمرعى.. توطدت علاقة الحب بينهما، وسترى الآن عندما تنزل قريتنا كلابًا مرقطة الأبيض مع الأسود، وقوة فتية لكلاب اعتادت أن تجلس على أبواب البيوت ساعة الغداء والعشاء.. أما الكلب الأبيض هذا فكان مدعاة لاحترامنا جميعًا.. يقف على الكوبري بعد المغرب.. والمسافة من الكوبري حتى مشارف القرية بعيدة نسبيًا.. يصطحب الكلب أي ساكن من أهل القرية.. من الكوبري حتى يدخل القرية .. وإذا كان الداخل غريبًا طارد الداخل النباح حتى يدخل إلى بيت المضيف أو الأقارب.. مات في يوم شاتٍ بوبر أبيض مائل للحمرة.. الزمن هزمه.. لكنه لم يغير عاداته أبدًا.. يستند ويسير.. ما أصعب اللحظات التي تملي على البطل أن يتحلى بسلوك البطولة ثم هو لا يستطيع..".
أجبرني هذا المقطع أن أتذكر "الكلب" الذي قرر والدي- وأنا طفل لم أتعدي الخمس سنوات- أن يتركه عند ابن خالته في آخر القرية من جهة الغرب بجوار الكوبري-مدخل القرية- والطريق السريع "القاهرة-أسوان"، فوالدي كان يجهز لسفره خلال أيام خارج البلاد، فربط عيني "الكلب" حتي لا يعرف طريق العودة فيهرب ويعود مرة أخري لبيتنا، ونسينا الأمر الذي مرت عليه أيام، وفجأة ونحن ننتظر السيارة التي ستقل والدي إلى المحطة عند الكوبري، وجدنا الكلب يلهس عند أقدام والدي، وبعد أن رحلت السيارة تابعها بنظره وجري وراءها حتي اختفت، وبسط ذراعيه على الكبرى حتي المساء ينتظر عودة والدي ونحن نرقبه بعجب واحترام.
هذا ما صنعه المبدع حمدي النورج ببساطةٍ وسهولةٍ ولغةٍ متفردةٍ يعجز الكثيرون عن إدراكها وحبكها، في رواية مليئة بالتشويق والحب والثورة، فليس هناك أبلغ من الوصف الذي يمنحه الكاتب لسكان جزيرة القرش- على لسانهم داخل الرواية:" نحن الذين سكنا جوف القري وهوامش الحدث.. نحن يا سادة صناع الحكي"، ليكون عنواناً لهذه الرواية الرائعة والتي تمنح القارئ ما يحتاجه من الدهشة، الدهشة التي هي عين الإبداع.
تجدر الإشارة إلى أن رواية "سكان جزيرة القرش" للروائي حمدي النورج، صدرت حديثاً عن دار "بتانة" للنشر والتوزيع، حيث تقع في 144 صفحة من القطع المتوسط.