أنا وصلاح عبد الصبور (2)

صلاح عبد الصبور

بلهفةٍ وحنين جارف، بحماسة وقلقٍ دائمين، بالاندفاعة الأولى والتصورات البريئة الحالمة. أدخل شارع النبي دانيال مُخَدَّرَ الإحساس أوزع أسئلتي الظمآنة على بائعي الكتب في الأكشاك الخشبية ذات الرائحة القديمة المقدسة وعلى الأرصفة.

إنني نسيت وجود (الباشمهندس) الذي اصطحبني إلى الشارع -كجواب فعلي منه على سؤالي عن الشعر-. أذكر أنَّه قال لي يومها ونحن في الطريق: في شارع النبي دانيال يمكنك أن تجد كلَّ شيء عن الشعر والتاريخ والفلسفة بل والعلوم أيضا.

-أتعلم ماذا تريد أن تشتري من الكتب تحديدا؟

كان ردي سريعا حاسمًا. أنا، لا. انا لا أعرف ما الذي ينبغي عليَّ أنْ أبدأ به. بماذا تشور عليَّ يا باشمهندس، كان رده سريعا وحاسما أيضا: اسأل بائع الكتب وهو يدلُّك على الشعراء المميزين. وظل يحكي لي عن أحد بائعي الكتب في هذا الشارع أيام كان في الجامعة. حكى أنه كان كلما احتاج إلى مرجع في تخصصه ذهب إلى هذا البائع وجلس عنده في الكشك طيلة فترة قراءة المرجع وتلخيصه وكان يقوم في مقابل ذلك بمساعدته في ترتيب الكتب ومسح الأرفف بالإضافة إلى بعض الأعمال الصغيرة. قال لي أيضا: "بائعو الكتب هم آبائي الأوائل وأساتذتي القدامى"، يامحمود "أنا رجل عصامي بنيت نفسي بنفسي " كان لكلامه هذا وقع السحر، إنها حقا كلمات ساحرة.

أبدأ رحلتي من هنا من تقاطع شارع فؤاد بالنبي دانيال وأنزع يدي من يدِ الباشمهندس وأذوب في الزحام. الكتب كثيرة والناس أيضا والأصوات كثيرة متناغمة وغير متناغمة. وبينما لم يعدْ يرى أحدنا الآخر وقفت أمام أحدِ الباعة وسالته: أريد كتابا في الشعر يا عمي لو سمحت؟ ردَّ الرجل: أيَّ شعرٍ؟ تريد كتابا عن الشعر أم كتاب شعر –قصائد يعني- . قلت له أنا لا اعرف. إنها أول مرة أشتري فيها كتابا فما بالُكَ وهذا كتاب شعر. فاخترْ لي أنت ياعمي قصائد شعرية لشاعر تحبه وتنصحني بقراءته.

كنت أرى الكثير والكثير من الكتب الملقاة على الأرض كل كتاب كنت انظر إليه كنت أشعر أنه يقول لي: خذني، سأجعلك تستمع وتتعلم الكثير. لكنني لم أكن أتبع إحساسي في هذا الوقت، كنت أثق تمام الثقة أنني لا أعرف شيئًا ذا بال ولذلك عليَّ أن أصمت وأستمع وأتبع التعليمات.

وقع اختيار الرجل على ديوان (الإبحار في الذاكرة) لصلاح عبد الصبور. أذكر أنني حين فتحت الكتاب وجدتُ نفسي أمام جملة تقول :" في أيام سوف أعانق قاهرتي، يلتئم الشمْلُ مع الندمان". لكنني لم أكن أعرف الكثير عن المدن العواصم.

كل ما كنت أملكه هو الإيمان المطلق بأنَّ ما يحدث الآن سيغيِّرُ حياتي إلى الأبد، وهذا الشارع الذي أنا واقف فيه الآن هو الشارع الذي وقف فيه صلاح عبد الصبور من قبل مشدودا ومنجذبا إلى شيء ما شيء ما فوق الواقع.

ظلت هذه الجملة معي ليس لها علاقة بالسياق التي قيلت فيه، ظلت معي وحدها كأول ضفة اخرى وهذه الضفة ليست الفردوس المفقود بالطبع؛ ولكنها لم تكن مجرد ضفة أخرى والسلام. حملت الكتاب بعد أن أعطيت الرجل خمسَ جنيهاتٍ وانطلقت عائدًا أتتبع صوت الباشمهندس الذي يأتينني من منتصف الشارع:

أين كنت كل هذا الوقت، لقد شربت قهوتين وتأخرنا وعليَّ أن أعود بك لأخيك محمد كما أوصاني، إنه يخاف عليك كما لو كنت لا تعرف شيئا فضلا عن أنك عفريت في ظني.

-أنت سيء الظنّ بي يا باشمهندس. منذ ذلك اليوم الذي ضبطني فيه وانا أُلْقي بالمُونَةِ من مَنْوَرِ العمارة وأنت تشكُّ فيَّ دائما. أنا قلتُ لكَ وقتها: فعلتُ مثلما فعل رفاقي ولم أفكر في شيء سوى أنني سأنتهي من العمل مبكرا، وهذا لن يضرَّ العمل في شيء. "إنها مجرد تخْميرة ربْع شيكارة من الإسمنت"، ويكفيني ما لاقيتُهُ منك من تأنيب ولوم وخصم يومٍ كامل. أنت لا تعلم كم أضرَّ بي هذا الخصم، كم عطلني عن فعل ما كنت أخطط له في يوميْ العطلة.

إذنْ أنت أخذتَ مني حقَّ صاحب العمل؛ لكننا حين يأكل المقاولُ أو صاحبُ العمل أموالنا أو يؤخرونها علينا لا نجد من يأخذ لنا حقوقنا مثلما فعلت أنت الآن معي لصالح لصاحب العمل. أتعلم يا باشمهندس لو كنت مكانك لأجبرت صاحب العمل والمقاول على أنْ يقبِّضونا يوم الأربعاء بدلا من الخميس. أتعرف لماذا. لأنه فضلا عن أنني أريد أن أقضي اليوم كله في شارع النبي دانيال فإنَّ أغلبنا -إن لم يكن جميعنا- ينتهي من عمل يوميَّةِ الخميس في التاسعة صباحا ومن وقتها يكون جاهزا للسفر إلى أنْ يحنَّ عليه صاحب العمل في نهاية اليوم ويعطيه حقَّهُ. "لماذا يظل الواحدُ منا منتظرا هكذا. إنكم تتلذذون برؤيتنا متراصيين على رصيف الشارع".

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً