لدى المصريين تاريخا طويلا حافلا بالبطولات والملامح الوطنية، تؤرخ وتوثق سير المصريين في شتى أنحاء البلاد، ويعتبر المصريون السير الشعبية إرثا شعبيا قوميا وطنيا تاريخيا يتناقلونه من جيل إلى ولعل أبرز هذه السير هي السيرة الهلالية.
تؤرخ السيرة الهلالية مرحلة تاريخية كبيرة في حياة قبيلة بني هلال وتمتد لتشمل تغريبة بني هلال وخروجهم إلى تونس وهي السيرة الأقرب إلى ذاكرة الناس، والأكثر رسوخًا في الذاكرة وتبلغ نحو مليون بيت شعر.
رواة سيرة بني هلال الشعبية هم من العامة والذين لا يقرءون ولا يكتبون في غالب الأمر، وإنما تناقلونها خلفًا عن سلف.
قال أحد الرواة إنه بعد وفاة الزير أبي ليلى المهلهل وضعت امرأة الأوس غلامًا سمّوه عامرًا وعندما بلغ سن الرجولة تزوج بامرأة من أشراف العرب فولدت له غلامًا في نفس الليلة التي مات فيها جده الجرو فسمّاه هلالًا؛ وهو جدّ بني هلال، وكان متصفًا بالفشل والأدب. ولما كبر الأمير هلال تزوج بامرأة بديعة في الجمال فولدت غلامًا سماه المنذر.
واتفق أن هلالًا زار مكة في أربعمائة فارس وطافوا حول البيت وتشرف بمقابلة النبي المختار فأمره النبي (صلى الله عليه وسلم) أن ينزل في وادي العباس. وكان النبي يحارب بعض العشائر المعادية له فعاونه الأمير هلال، ومدّه بالعساكر.
وكانت فاطمة الزهراء راكبة على جمل في الهودج فلما رأت هول القتال ومصارعة الأبطال؛ حوّلت راحلتها لتبتعد عن القتال، فشرد بها الجمل في البر، فدعت على الذي كان السبب بالبلاد والشتات فقال لها أبوها: ادعي لهم بالانتصار فهم بنو هلال الأخيار، وهم لنا من جملة الأحباب والأنصار. فدعت لهم بالنصر فنفذ فيهم دعاؤها بالتشتيت والنصر. ثم رحل الأمير هلال إلى وادي العباس وعسكر في تلك النواحي. ولما سمعت به العربان تواردت إليه من جميع الجهات، فكثرت عند الأصحاب والأنصار. وكان له ولد حلو الشمائل وكان فارسًا مشهورًا وبطلًا عنيدًا اسمه المنذر. قال الراوي: بينما كان المنذر جالسًا في نافذة قصيرة، رأى ابنة قاهر الرجال تخطر أمامه وهي تميس حسنًا ودلالًا فعشقها".
قبيلة "بنو هلال" هي قبيلة عربية تغلب عليها الفاطميون بعد عدائها لهم فنقلوها إلى صعيد مصر أول مرة ثم بدا لهم أن يتخلصوا منها نهائيا ومن أعدائهم في المغرب فسمحوا لها ولأحلافها بعبور النيل. وهكذا بدأت ملحمة دامت عدة قرون وكان ذلك عام 1149م.
السيرة الهلالية تقسم إلى 5 أجزاء الجزء الأول منها عن خضرة الشريفة ويتناول مأساة رزق بن نايل جرامون بن عامر بن هلال قائد الهلاليين وفارسهم وأميرهم، الذي تُعجب "خضرة" بخلقه وشهامته وفروسيته رغم أن فارق العمر بينهما 45 عامًا. والجزء الثاني هو "أبو زيد في أرض العلامات" حيث أتمت خضرة خمس سنوات تحيا في منازل "الزحلان" في كنف الملك فاضل بن بيسم ويسرد هذا الكتاب ما حدث لأبي زيد في بلاد الرحلان من علو المجد والشأن وفي "مقتل السلطان سرحان" وهو الجزء الثالث يتخفى أبو زيد في ملابس شاعر رباب ويدخل قصر حنظل بعد أن عرفت نساء بني هلال حقيقته وتكتشف عجاجة ابنة السلطان حنظل حقيقة الفارس الهلالي فتبلغ أباها الذي يعتقل غريم بني عقيل. ليقيد بالسلاسل ويلقي به في السجن انتظارًا لشنقه.
أما الجزء الرابع (فرس جابر العقيلي) وكيف خاض أبو زيد الأهوال ليعود بالفرس التي حكت عنها الأجيال، وفيه يحتال الدرويش لدخول جناح الأميرة ليلضم لها عقدًا، ويقرأ لها الطالع وتكاد جارته أن تكتشف تسلله والهدف منه، لكنه يقنعها بدروشته وفقره وبالرشوة أيضًا، بأن أسئلته عن "الخيمة المتبوعة" إنما هي من قبيل الفضول.
وفي الجزء الخامس (أبو زيد وعالية العقيلية) وكيف أسرت أبو زيد بجمالها وكيف ناضل إلى أن اقترن بها وفي ليلة وداع البطل لعالية العقيلية حيث أولمت الولائم ووجهت الدعوة لحراس فرس والدها الملك (السلطان) جابر العقيلي، ووضعت في المنان مخدرًا قويًا لينام الحراس كي يتمكن أبو زيد من امتطاء الفرس والانطلاق إلى خارج المدينة.
تحكي السيرة الهلالية عن حلف الهلالي المكون من قبائل "نجد" المقاتلة والمدافعة عن قيم الأمة وشرفها. "هلال" الجد البعيد الذي تنتسب له القبيلة المحاربة قبيلة "بني هلال" هو أحد رجال الإسلام الذين أبلوا أحسن البلاء في الدفاع عن الرسول في غزوة تبوك - هذا ما تذكره السيرة وإن كان غير صحيح - فاستحق بذلك التمجيد، ونال نسله فخر البطولة وشرف الفروسية.
في بداية السيرة، يكون فارس بني هلال المغوار هو "رزق بن نايل بن جرامون بن عامر بن هلال"، حامي حمي الحلف الهلالي. تزوج "رزق" من "خضرة الشريفة" ابنة الأمير "قرضة الشريف" حامي الحرمين وحامل مفتاح الروضة الشريفة، وأنجب منها "أبو زيد الهلالي سلامة"، وأصبح من نسل النبي يأخذ ويرث من ناحية أمه الحكمة والعلم، ومن ناحية أبيه مجد البطولة وعنفوان الفروسية.
ولكن أنكر رزق نسب ابنه أبو زيد واتهم أمه خضرة بالزنا وطردها من مضارب القبيلة وابنها لم يتجاوز 7 أيام، فتربيه أمه على الفروسية من صغره بعد أن تلجأ لحاكم مدينة العلامات الملك فاضل الزحلاني وتظهر على أبوزيد علامات النبوغ وهو طفل صغير، ويستطيع في طفولته أن يخوض صراعا مع بنى عقيل أعداء أهله بنى هلال، حتى يستعين مشرف العقيلي على أبوزيد بعدد من فرسان بنى هلال ومنهم عم أبوزيد الأمير عسقل الذي ساهم في طرد خضرة الشريفة من مضارب الهلالية ويحارب أبوزيد فرسان الهلالية ويقتل عمه الظالم عسقل ويأتي لأمه بحقها بعد أن يعنف أباه الأمير رزق بن نايل ويحكم على بنى هلال أن تعود أمه خضرة الشريفة على بساط من حرير تأكيدا لبراءتها.
ويعود أبوزيد إلى أهله بنى هلال ليصبح فارسها المغوار وليقاتل العدو الأجنبي اليونانيين الذين هاجموا الأراضي العربية، وتتوالى مغامرات أبوزيد الهلالي ويخوض تغريبة طويلة مع بنى هلال عندما يرحلون غربا بحثا عن المرعى بعد ثمان سنوات من الجفاف لتتوالى فصول سيرته ليرحل إلى تونس ومعه أبناء الأمير حسن مرعى ويحيى ويونس وتتوالى القصص الفرعية من مقتل مرعى وحب يونس لعزيزة والصدام الكبير بين أبوزيد وحاكم تونس خليفة الزناتي أو حسب الرواية الشعبية الزناتي خليفة وتقوم الحرب بين بنى هلال وحلفائهم قبائل الزغابة من جهة وبين بنى قابس بزعامة خليفة الزناتي وأشجع فرسانه المسمى بالعلام من جهة أخرى بعد أن رفض الزناتي أن يحصل بنو هلال على المرعى في أراضيه، لينال جزاءه مقتولا على يد دياب بن غانم كما تنبأت سعدى الزناتي.
"التغريبة" هي موجة هجرة كبيرة قامت بها قبائل من نجد مخترقة مصر عابرة إلى شمال أفريقيا، بعد ما مر بهذه الأرض من مجاعة أهلكت الجميع. واستوطنت تلك القبائل أرض تونس، بعد أن زحفت إليها تسوق رجالها ونساءها.
في شرق الوطن العربي بطل السيرة هو أبو زيد الهلالي سلامة. في بلاد المغرب يصبح الزناتي خليفة. أما في الجنوب فهو ذياب بن غانم.
يختلف أبطال السيرة حسب المكان، الرواية في الشرق بطلها أبو زيد الهلالي سلامة، الفارس الأسود، الذي تتهم أمه في شرفها لسواده وهي التي دعت الله أن يهبها غلاما يماثل الطائر الأسود القوي الذي رأته واختارته.
في بلاد المغرب الزناتي يظهر أقوى وأروع آيات البطولة، ثم المقاومة بعد الاحتلال، وهو نموذج البطل الشعبي المناضل في السيرة.
الرواية الثالثة في الجنوب تنتصر لذياب بن غانم. ذياب بن غانم هلالي، من الزغابة، وزغب هي قبيلة من قبائل بني هلال ويعود نسبها إلى زغبة بن أبي ربيعة بن نهيك بن هلال بن عامر بن صعصعه، وذياب مع قوته وعنفوانه يحاول دائما الاستيلاء على السلطة في غيبة أبي زيد الذي يردعه، وهو نفس ما يفعله في تونس مع "الزناتي"، لكن رواية الجنوب لا تراه رمز الخسة والبطش، بل تراه البطل المناوئ، هو ليس من السادة والأكابر، وليس من بيت الحكم، لكنه الأمل الذي يمكن للصاعد من أسفل إذا ما أجتهد أن يناله فيكون بذلك قد نال ما يستحق.