منح البحر المتوسط سره لدعاء وأودعها حكاية من 4 أيام تجسد أعوامًا ستة من الحرب السورية ومآسيها النازفة ضحايا ونازحين ولاجئين توزعوا شتاتًا بين الدول.
جاءت حكاية دعاء فى كتاب أعدته ميليسا فليمينج من مفوضية الأمم المتحدة للاجئين والتى سمعت عن قصة غرق سفينة صيد كانت تبحر إلى أوروبا وعلى متنها 500 مهاجرا نجا منهم 11 شخصا فقط.
كانت من بين الناجين دعاء الزامل فتاة درعا السورية التى وثقت فليمينج تجربتها فى كتاب حمل عنوان "أمل أقوى من البحر" حكاية لاجئة مع الحب والخسارة والصمود الصادر عن الدار العربية للعلوم ناشرون فى بيروت.
وتدور أحداث القصة، التى ترجمها إلى العربية رامى غدار، بين درعا وعمان والقاهرة وصولًا إلى عمق البحر المتوسط لتأخذ من مدينة درعا فى جنوب سوريا، التى شهدت انطلاق أولى شرارات الحرب، مدخلًا لعرض حكاية ثورة بدأت سلمية وانتهت دموية.
وتستعرض فليمينج فى كتابها، الذى يقع فى 285 صفحة من القطع الوسط، هدوء وسلام درعا أكبر مدن جنوب سوريا والغنية بالتربة الحمراء الخصبة وسخاء المحاصيل والفاكهة والخضار، حيث كان يقال إن محصول درعا كفيل بإطعام سوريا كلها.
وتقول فليمينج إن سوريا ضربتها فى عام 2007 موجة جفاف ما أجبر العديد من المزارعين على ترك حقولهم والانتقال مع عائلاتهم إلى مدن مثل درعا، الأمر الذى أفضى إلى موجة استياء تأججت فى عام 2011 قبل أن تتحول إلى موجة احتجاجات عارمة.
وتصف الكاتبة مرحلة بداية الحرب انطلاقا من درعا فتقول "بدأ كل شىء مع رسوم الجرافيتى التى رسمتها مجموعة من تلامذة المدرسة على أحد الجدران وقد حصل ذلك فى فبراير 2011 عندما كان أهل درعا يراقبون طوال أشهر عدة كيفية تحدى الشعوب للأنظمة القمعية فى الشرق الأوسط وإسقاطها.. بدءًا من تونس التى أسقطت زين العابدين بن علي، راقبت العائلات ما حصل بذهول غير أن أحدا لم يتخيل أن بوسعه تحدى النظام السوري".
حينها بدأت دعاء، التى كانت فى سن السادسة عشرة، تلح على والديها لمعرفة ما يحصل فى المنطقة وتتساءل عن إمكانية حصول ذلك فى سوريا أيضا لكن والديها قالا إن سوريا مختلفة عن تونس وإن الحكومة فيها مستقرة.
كانت دعاء الزامل وعائلتها شهودا على أحداث درعا ولاسيما سجن التلامذة، وهم جيرانهم حسب قول الكاتبة، فقررت دعاء التظاهر متحدية عائلتها.
لدى حصار درعا فى ابريل 2011 ومع تحول الثورة إلى احتجاج مسلح انتقلت عائلة الزامل إلى الأردن ومنها إلى مصر وهناك عاشت دعاء حكاية حب مع ابن بلدها باسم الذى كان قد نزح بدوره إلى مصر.
ارتبط الشابان وقررا الهجرة معا إلى السويد، حيث لم يعد بإمكانهما البقاء فى مصر ولا العودة إلى سوريا إذ تقول الكاتبة إن العائلة لم تلق فى مصر سوى "العدائية والعمل الشاق بأجور منخفضة لا تكفى لتلبية الاحتياجات الأساسية وبالكاد كانوا قادرين على شراء الطعام ودفع الإيجار، ولا فرصة أبدا لكى تنهى دعاء الثانوية العامة. وهى كما آلاف اللاجئين السوريين شعرت أنها عالقة بحياة مهملة وفى بلد يواجه سكانه مشكلات اقتصادية وتضخما ماليا وارتفاعا فى الأسعار."
اصطدم حلم دعاء بالهجرة إلى أوروبا بمافيا من تجار البحر وقوارب التهريب الذين كانوا يتحصلون من النازحين على أموال طائلة ومن دون ضمانات بالوصول وكانوا يتاجرون حتى فى سترة النجاة التى يبيعونها "مغشوشة" وغير صالحة للطفو إلى اللاجئين.
وبعد ثلاث محاولات فاشلة فى الصعود إلى سفينة النزوح على شواطئ الإسكندرية وصلت دعاء وخطيبها باسم إلى سطح سفينة معدة للصيد وتقول الكاتبة "وضع السفينة كان تعيسا والطلاء الأزرق متقشر والحواف صدئة كلها وشباك الصيد الموضوعة على متنها أظهرت أنها للصيد وليست لنقل الركاب، كانت السفينة مزدحمة جدا لكنها تعرضت فى عرض البحر إلى هجوم بالرصاص وتم استهداف الركاب الذين كان بينهم العديد من الأطفال والنساء."
وتضيف: "تلك الليلة ارتعد الركاب من شدة البرد بعد أن ابتلت الطبقات الرقيقة من ملابسهم نتيجة تلاطم الأمواج على هيكل السفينة."
وفى عرض البحر بدل اللاجئون رحلتهم من سفينة إلى أخرى، لكنهم كانوا يُرمون "كأكياس البطاطا" ولقى بعضهم حتفه تحت المحركات. وقد شاهدت دعاء العديد من الشبان والأطفال وقد تمزقت أجسادهم بشفرات المحركات.
وفيما بدأ الركاب يسقطون فى البحر صرخ الرجال من السفينة المهاجمة قائلين "فليأكل السمك لحمكم" ثم انطلقوا بعيدًا وظل صوتهم يتردد فى أذنى دعاء.
بات نصف سفينة اللاجئين تحت الماء وراحت تغرق بسرعة ففكرت دعاء فى مئات الأشخاص العالقين داخلها وقالت لنفسها إنه حكم عليها بالموت فيما تشبثت بحافة السفينة الغارقة. كانت تسمع الصراخ من حولها بالإضافة إلى صوت محرك السفينة، تنظر صوب البحر فترى مجموعات مبعثرة من الأشخاص الذين راحوا ينادون أسماء أحبائهم ويتضرعون إلى الله طالبين المساعدة.
تشبث الناس بأى شيء كطوف، الأمتعة، وقنانى الماء، وحتى أشخاص آخرين أغرقوهم معهم، وبدأت مروحة السفينة تجذب الناس فتقطّع أوصالهم، وراقبت دعاء بذعر ولدا صغيرا يبكى ويكافح للتشبث بالسفينة قبل أن تفلت قبضته عنها وينزلق.
لم يصمد خطيبها الذى ترك لها طوق النجاة وقال لها "ضعى هذا فوق رأسك كى تتمكنى من الطفو" ثم أنزل رأسه فى البحر وغاب.
تخيلت دعاء نفسها تفلت من الطوق البلاستيكى لتغرق فى البحر مع باسم، لكنها أحست أن على ذراعيها فتاة صغيرة تدعى ملاك تتشبث بعنقها وأدركت أنها الوحيدة المسئولة إذا ما غرقت هذه الطفلة التى تركها جدها مع دعاء قبل أن يغرق بدوره.
وبعد ساعات أخرى وجدت دعاء طفلة اسمها ماسة تمسك بها من الجانب الأيسر. وعلى مدى أربعة أيام متواصلة قاومت دعاء وماسة وملاك البحر من دون ماء ولا طعام، وكانت دعاء مرهقة تخشى أن تنام كى لا تفلت الطفلتان من ذراعيها.
وكلما كانت الفتاتان الصغيرتان تتحركان وتضطربان كانت دعاء تغنى لهما أغنيتها المفضلة من أيام الطفولة "يلا تنام يلا تنام لاذبحلا طير الحمام"، وحين تشعر أنهما قد تفقدان الوعى كانت تضع أصابعها قرب عيونهما وتقول بصرامة "ملاك ماسة استيقظا يا حبيبتى".
شعرت دعاء بالرعب والذعر وهى ترى الجثث أمامهم ممددة ومنتفخة فى الماء إلى أن لمحت طائرة فى السماء ومن بعدها جاءت سفينة تحمل مواد كيميائية تعبر إلى البحر المتوسط فى طريقها إلى مضيق جبل طارق، وقد تلقت هذه السفينة نداء استغاثة من حرس السواحل المالطية يعلن أن ثمة سفينة محملة باللاجئين قد غرقت ويطلب من كل السفن فى المنطقة تقديم المساعدة.
قرر طاقم السفينة اليابانية أن يبذل كل ما بوسعه لإنقاذ الناجين، لكنه عندما وصل إلى حيث أشارت الإحداثيات لم يرَ سوى جثث منتفخة تطفو على سطح البحر.
بدأت الرياح تزداد قوة والأمواج تعلو والرؤية تسوء، فتحرك قارب الإنقاذ فى كل المساحة وبدا لهم وكأن بحثهم قد ذهب سدى، إلا أن صوت القبطان صاح فجأة عبر جهاز اللاسلكى معلنًا أن هناك امرأة تطلب النجدة فأدركوا انه لا يزال هناك شخص على قيد الحياة فى مكان ما.
كانت هذه المرأة هى دعاء التى جفت حنجرتها نتيجة الصراخ المتكرر وقد رغبت فى الاستسلام، ولكن وزن ماسة وملاك على صدرها منحاها حافزا للعيش، استمرت فى التجديف للبقاء طافية ومع كل حركة فى الماء كانت تقول يا رب، لكن يبدو أن صوتها كان يختفى وسط الرياح.
فجأة سمعت دعاء أصواتا تنادى وفهمت بعض الأصوات الانجليزية "أين أنت، تابعى الصراخ كى نجدك"، فجدفت بكل قوتها صوب هذا الصوت.
وأخيرا بعد مرور ساعتين صرخ بحار نظر من نافذة قارب الإنقاذ "أراها" فتحركت الأضواء صوب دعاء واقترب منها مركب أحمر بحجم حافلة صغيرة ومدوا لها عصا طويلة تشبثت بها جيدا فيما سحبوها مع الفتاتين.