حواديت "أهل مصر".. ثمن الغربة

صورة تعبيرية

تزوجنا بعد قصة حب طويلة، وسافرنا بعدها إلى إحدى الدول الخليجية، وهناك أنجبنا أبناءنا الثلاثة، سارت بنا الحياة عادية، لا يعكر صفوها إلا البُعد عن والداى، اللذين كانا شديدى التعلق بى وبأبنائى، إذ إنني الابنة الوحيدة لهما على ثلاثة أشقاء.. كانت زياراتنا لمصر منتظمة كل عام فى نهاية الصيف، وأحيانًا فى الأعياد إذا سمحت ظروف عمل زوجى.

خطف الموت والدى رحمه الله فجأة، ولم أره، مما ترك فى نفسي عظيم الأثر، لأننى علمت من والدتى أنه كان قبل وفاته تمنى رؤيتى وأولادى، ووعدته والدتى أن تهاتفني فى الصباح، لكن القدر لم يمهله حتى يودعنى، وحرمني من أن أرتمي في حضنه للمرة الأخيرة.. تركت زوجى وأبنائي وقتها، حيث لم تكن ظروفهم تسمح بالنزول معى، فقد كانوا جميعًا فى أوقات الامتحانات، واستحال عليهم مرافقتى كما استحال عليّ عدم النزول وحضور جنازة والدى، وكان يومًا عصيبًا عليّ.. حاولت التماسك قدر الإمكان لأجل والدتى، التى كانت هى الأخرى منهارة، ومرت تلك الأيام ثقيلة وحزينة علينا، حتى استسلمنا لقضاء الله.

جلست مع والدتى تلك الفترة الطويلة، ولم أتركها وحدها، واستقر رأيى أنا وزوجى على أن أبقى معها، وعندما تنتهى الامتحانات سيلحق بى هو والأبناء، وبالفعل حدث ذلك، ونزل زوجى هو وأبنائي في إجازة الصيف التي كانت كلها مع أمى، لم أفارقها يومًا واحدًا، وانتهت الإجازة، وحان وقت الرجوع، ولأول مرة لم أستطع السفر مع زوجى وأبنائى.. اعتقدت فى البداية أنه تأثير غياب والدى عنى، وعدم استطاعتي تقبل الرحيل وترك أمي بمفردها مع الحزن، وإن كان هذا جزءًا من الحقيقة، ولكن الحقيقة الأكبر أننى أدركت أن عمرى وحياتى فى الغربة أضاعا علىّ أشياء كثيرة.

كنت دائمًا زائرة للبلد شهرًا أو أكثر قليلًا، لم أعش مع إخوتى وأبنائهم، كما لم أعد ألتقي مع صديقاتى، حُرمت من العيش حياة سوية، فقد كانت حياتنا فى الغربة مملة وكئيبة، حياة تخلو من الروح ولا حياة فيها، لا تصلح سوى لجمع المال فقط.

أبنائي لا يوجد لهم أصدقاء ولا معارف هنا في بلدهم، وهو ما كان يفسر جلوسهم معي في البيت طيلة الإجازة.. صممت على عدم السفر مع زوجى، وطلبت منه الاستقرار فى مصر، فكفانا سبعة عشر عامًا من الغربة، فلنعد لبلدنا وقد منّ الله علينا من فضله كثيرًا، ومعنا ما يكفي لنعيش هنا حياة كريمة، وفرتها لنا استثماراتنا فى سابق عملنا هناك.

رفض زوجى وبشدة هذا القرار وسافر مع الأبناء، فقد جاء وقت دخول مدارسهم، وكان لابد من السفر.. أقسم أننى لم أستطع السفر، ليس بسبب أمى فقط، بل لأنى تعبت من الغربة والعيش وسط الغرباء، ولم يعد فى عمرنا الكثير لنقضيه بهذا الأسلوب، وأنا الآن فى منتصف العقد الرابع، فمتى سأعيش حياتي الطبيعية؟، متى سأستمتع بحياتى؟، متى أستطيع أن أجنى ثمره تعبى وغربتى طوال تلك السنين؟.. أسئلة راودتني ليل نهار، وكان لابد من اتخاذ قرار.

مر الوقت ما بين الشد والجذب مع زوجى وهو هناك مع الأبناء، حتى مر العام وانتهت الدراسة، ووجدت ابنتى الكبرى هى الأخرى تريد النزول إلى مصر، للالتحاق بالكلية، على عكس اتفاقنا من قبل أن تدخل الكلية فى تلك الدولة الخليجية، وشعرت أن المسافة بينى وبين الكل أصبحت بعيدة جدًا، وأن أبنائي ينظرون إليّ على أننى تركتهم عامًا كاملًا وحدهم، وزادت الهوة بينى وبين زوجى مع إصراره على استكمال حياته فى الخارج.

طلبت منه أن يستكمل هو عمله فى الخارج، وأرجع أنا والأبناء إلى مصر ونستقر بها، وأن يزورنا فى العام عدة مرات، كحال أسر كثيرة، لكنه رفض بشدة، وأصر أن يعيش مع أبنائه والأسرة كلها في بلاد الغربة، وتبقى ابنتى مع جدتها، وهو يرى أن هذا سيكون أفضل حل لرعاية أمى.. حاولت معه كثيرًا أن أقنعه بأن المشكلة لم تعد فى أمى وحدها، وأننى الأخرى لم أعد أقوى على تحمل الغربة، وأنه آن أوان الرجوع، حيث لم يعد هناك داع لتضييع بقية العمر في الغربة، فقد منّ الله علينا من فضله كثيرًا..

لا أعلم ماذا أفعل في ظل إصرار زوجي على عودتنا معًا للخليج، خاصة بعدما خيرني بين استكمال حياتنا كما يريد، أو الانفصال والسفر بالأولاد وحده وبدوني.

لقد عشت معه عمرى كله كما يريد هو، ولم يكن لى أى طلبات غير عادية، وهجرت أهلى وبلدى لأجله، حتى يحقق طموحه فى الحياة، وشاركته المشوار الطويل في الغربة، والمعاناة، حتى حقق ما أراد، فلم يكن مشوارنا أبدًا سهلًا، فقد كان يعمل فى البداية ست عشرة ساعة فى اليوم، كنت أجلسها وحدى، لم يؤنس وحدتى سوى ابنتى الأولى التى جاءت بعد عامين من زواجنا، وولدتها فى الغربة.. كل حياتنا كانت هناك، ومناسباتنا كانت دائمًا وحدنا، وأبناؤنا تربوا هناك، ليس لهم صاحب ولا رفيق في بلاد قاسية.. هل أظل عمرى كله فى الغربه؟.. متى سأعيش إذًا؟

الرد

أتفق معك سيدتي أن حياة الغربة حياة قاسية، حتى وإن توفر فيها المال، لكنّ الأمور لا تؤخذ هكذا.. فالرجل يعمل، وحياته هناك، وواضح من حديثك أنه مستقر فى عمله، ومن الصعب عليه أن ينسحب من تلك الحياة، المستقرة ماديًا إلى أخرى مجهولة، لا يعلم ملامحها ولم يخطط لها بعد.

أرى أن المشكلة بدأت فى الحل فعليًا بنزول ابنتك إلى مصر لاستكمال دراستها، وذلك سيتيح لك فرصة أكبر للسفر لها كثيرًا، والجلوس معها بعض الوقت، وبعد عام أو عامين سيلحق بها أبناؤك الآخرون، ويجتمع شملكم، وأرى أن تتركى بعض الوقت لزوجك، فهو محق في أنه لا يريد أن يتفكك كيان الأسرة، ويريد أن تستقروا جميعًا معًا، وقد رأيت تأثير غيابك السيئ على الأبناء.. مع الوقت سيرى زوجك أن حياة الأبناء بدأت تتحول تدريجيًا للرجوع للوطن، وقتها سيجد لنفسه بديلًا عن عمله، وسيخطط للحياة هنا والاستقرار معكم.

أمهلى زوجك ونفسك بعض الوقت للتحول من الحياة التى اعتاد عليها هناك إلى الاستقرار فى مصر، والذى لن يتحول بين يوم وليلة، ولا بناء على قرار تتخذينه أنت بشكل منفرد، ولم يفت الوقت بعد، فما زلت فى مقتبل الحياة، وسيأتى اليوم الذى تستمتعين فيه بتعبك وتجنين ثمار غربتك، ولكن تماسك الأسرة الآن هو الأهم والأولى.

نقلا عن العدد الورقي.

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً
عاجل
عاجل
تشكيل منتخب مصر أمام بوتسوانا فى تصفيات أمم إفريقيا