دور اليهود والمسيحيين في تشييد الحضارة الإسلامية

الحضارة الإسلامية

لم ينفرد المسلمون وحدهم بتشييد وإقامة الحضارة الإسلامية، تلك التي امتدت على مدار عشرات القرون المتتالية.

فإذا كان المسلمون قد شكلوا المادة الأولى الخام لتأسيس تلك الحضارة وبنائها، فإنهم في الوقت ذاته، قد أفسحوا بجوارهم مكاناً رحباً واسعاً لتواجد المسيحية واليهودية، ومساهماتها التي تميزت بألمعيتها وتفوقها في شتى مجالات الحضارة.

فالمجتمع الإسلامي كان دائماً قائماً على التنوعّ، والمجال المفتوح لأبنائه، من المسيحيين واليهود، كما للمسلمين، للتفوق في مجالات الحرب والإدارة والفلسفة والطب والشعر، وتبوء أعلى المناصب في الدولة الإسلامية عبر عصورها المتلاحقة.

أقباط مصر والأسطول الإسلامي

تم الفتح الإسلامي لمصر في عام 21هـ/642م، وبموجب ذلك الفتح أضحت مصر إحدى ولايات الخلافة الإسلامية، وتم الاتفاق مع الأقباط المصريين على دفع الجزية والبقاء في أرضهم، على أن يتم توفير الحماية لهم من جانب العرب.

ولكن بعد بضع سنوات من الفتح، وبالتحديد في عام 35هـ/655م، وفي عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان، تزايدت هجمات البيزنطيين البحرية على السواحل الشامية والمصرية، ولما كان العرب يفتقدون إلى أي خبرة في القتال البحري، فقد لجؤوا إلى القبط وطلبوا المساعدة منهم.

هنا تبدأ مساهمة الأقباط المصريين الأولى في الحضارة الإسلامية، وذلك عندما قاموا بتشييد عدد من مصانع السفن، وعملوا على استخدام خبرتهم الكبيرة في هذا المجال، في صناعة الأسطول الإسلامي الأول.

كما اشتركوا مع العرب في معركتهم البحرية الأولى المعروفة باسم ذات الصواري، تلك التي وقعت بالقرب من شطآن الإسكندرية، والتي انتهت بانتصار المسلمين وهزيمة الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الثاني.

المسلمون لم ينسوا تلك الخدمة الجليلة التي قدمها لهم الأقباط، حيث عملوا على رفع الجزية عنهم لفترة، واستفادوا من خبراتهم في إقامة العديد من مصانع السفن في مصر والبلاد المجاورة لها، وعينوا بعضاً من ذوي النباهة والكفاءة منهم في مراكز قيادية في الأساطيل الإسلامية.

الأخطل: الشاعر المسيحي في البلاط الأموي

ربما لا يعرف الكثيرون، أن واحداً من كبار الشعراء العرب الذين اشتهر أمرهم زمن الخلافة الراشدة والخلافة الأموية، كان مسيحياً.

فغياث بن غوث بن الصلت بن طارقة، والذي عُرف واشتهر باسم الأخطل كان من نصارى قبيلة بني تغلب، الذين كان قطاع كبير منهم يعتنق الدين المسيحي فيما قبل الإسلام وفي الفترة المبكرة منه.

كان الأخطل مع كل من جرير والفرزدق، من شعراء العصر الأموي البارزين، وقد حظي بمكانة كبيرة ومهمة عند الخلفاء الأمويين، حيث قربه الخليفة يزيد بن معاوية، وكان دائم الاستماع لشعره وقصائده.

واستمرت حظوة الأخطل عند الأمويين فيما بعد يزيد، ووصلت لمنتهاها في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان، حينما قام الأخير بتعيين الأخطل كشاعر رسمي للبلاط الأموي.

وقد استخدم الأخطل مواهبه الشعرية والإبداعية كثيراً في تأييد بني أمية، ونصرتهم والهجوم على أعدائهم، ومن ذلك عندما هجا أهل المدينة الأنصار الذين ثاروا على يزيد بن معاوية.

وفي رسائله المشهورة، يصف الجاحظ وضع المسيحيين في عصر الدولة العباسية فيقول "إن النصارى متكلمين وأطباء ومنجمين وعندهم عقلاء وفلاسفة وحكماء".

ويضيف: "وإن منهم كتّاب السلاطين وفرّاشي الملوك وأطباء الأشراف والعطّارين والصيارفة".

وكان حنين بن إسحاق واحداً من هؤلاء المسيحيين، الذين عملوا في مجال الترجمة ونقل العلوم اليونانية إلى اللغة العربية والسريانية.

كما كان له دور بارز في ترجمة كتب الطب على وجه الخصوص، مثل كتب ومؤلفات كل من جالينوس وأبقراط.

مهارات ابن اسحاق، أهلته ليكون واحداً من أقرب المقربين لخلفاء دولة بني العباس، الذين سعوا في بناء حضارة متمايزة تجمع ما بين الأصل الإسلامي من جهة وعلوم الحضارات السابقة من جهة أخرى.

وفي عصر الخليفة عبد الله المأمون، الذي أشتهر بكونه راعي الثقافة والعلم، تمّ تكليف ابن اسحاق بالإشراف على بيت الحكمة في بغداد، والذي كان وقتها أهم مؤسسة علمية وتثقيفية في الشرق كله.

شغف المأمون بالعلم والمعارف، جعله يُقدم على تقديم المكافأت الكبيرة لابن اسحاق نظير ترجماته القيمة، حتى قيل إن المأمون كان يعطي لابن اسحاق ذهباً بمقدار ما تزنه كتبه وترجماته من اللغات الأخرى.

ورغم انصراف خليفة المأمون المعتصم بالله، عن تحصيل العلم والاهتمام بالترجمة، إلا أن حنين بن اسحاق قد ظل محافظاً على مكانته العالية في الدولة العباسية، حتى عينه الخليفة المتوكل على الله بعد ذلك ليصبح طبيبه الخاص.

وحتى بعد وفاته، انتقلت تلك المكانة الكبيرة لابنه اسحاق بن حنين، الذي تابع مسيرة أبيه في الترجمة والطب، وكان على صلة بكبار وزراء الدولة العباسية في عهد الخليفة العباسي المعتضد بالله.

ومما قيل عن حنين بن اسحاق، ما أورده ابن جلجل في كتابه طبقات الأطباء والحكماء، أنه كان "عالماً بلسان العرب، فصيحاً باللسان اليونانيّ جداً، بارعاً في اللسانين بلاغةً بلغ بها التمييز عِلَل اللسانين".

آل بختيشوع: الأسرة التي تمنَّى هارون الرشيد إسلامها

على مدار ما يقرب من الثلاثمائة عام، ظلت الأجيال المتلاحقة من أسرة بختيشوع المسيحية، تتصل بعلاقات وثيقة مع خلفاء دولة بني العباس الأوائل.

وقد بدأت شهرة هذه الأسرة، منذ عهد مؤسسها الأكبر جورجيس بن جبرائيل، الذي تمكن من علاج مرض أبي جعفر المنصور الذي عجز الأطباء عن علاجه واحتاروا في تشخيصه، مما جعل المنصور يغدق عليه الأموال والهدايا.

أما حفيده جبرائيل بن بختيشوع، فقد عُرف بكونه أفضل أطباء بغداد، فكان الطبيب الخاص للخليفة هارون الرشيد كما كان طبيب وزيره جعفر بن يحيى البرمكي.

ويذكر ابن أبي أصيبعة في كتابه الإنباء في طبقات الأطباء، أن حبّ الرشيد لتلك العائلة قد بلغ حد أن واظب على دعوة الله ليهدي طبيبه إلى الإسلام، وأنه كان يبرر ذلك لمن حوله بقوله "إنّ صلاح بدني وقوامه به، وصلاح المسلمين بي، فصلاحهم بصلاحه وبقائه".

أما ابنه بختيشوع بن جبرائيل، فكان طبيب الخليفة المتوكل على الله، وكان من أقرب الناس إليه وأرفعهم منزلة عنده.

ابن النغريلة: الوزير اليهودي في بلاط ملك غرناطة

في الأندلس أيضا، كانت هناك مشاركة واسعة لليهود والنصارى في أمور الحكم والإدارة، أحد أهم الأمثلة على ذلك يأتينا من حالة الوزير اليهودي شموئيل اللاوي بن يوسف، الذي اشتهر بلقبه ابن النغريلة.

شموئيل الذي كان يعيش في عصر ملوك الطوائف الأندلسيين في القرن الخامس الهجري/ العاشر الميلادي، كان معروفاً بشتى المواهب والمهارات والعلوم.

فقد كان كاتباً بارعاً وشاعراً مجيداً بالإضافة إلى ملكاته العسكرية ودرايته بعلوم النحو والفلك وخبرته الواسعة بالتلمود وتفاصيل الشريعة اليهودية.

كل تلك المهارات، استوقفت حاكم غرناطة حبوس بن ماكسن، فقام بتعيينه في عام 410هـ/1019م، على جمع الضرائب، وترقى بعدها في الوظائف حتى أصبح أحد الوزراء المقدمين.

وبعد وفاة حبوس، لعب الوزير اليهودي دوراً مهماً في صرف الحكم إلى باديس بن حبوس بدلاً من أخيه بلكين، وارتفعت مكانته عند الحاكم الجديد، حتى صار ابن النغريلة هو الحاكم الفعلي لمملكة غرناطة، وأضحى هو القابض على جميع أزمة الحكم والسلطان والإدارة بها، وظل كذلك حتى توفى في عام 447هـ/1056م.

ورغم المكانة العالية التي حظي بها ابن النغريلة عند أسرة بني زيري، إلا أن عامة أهل غرناطة كانوا ينقمون عليه ويحسدونه مكانه من السلطان، وذلك بسبب يهوديته وتفضيله لبني دينه في الوظائف والأعطيات.

فثار الكثير منهم بعد وفاته على ابنه يوسف ابن النغريلة الذي كان يحظى هو الأخر بمكانة عالية عند باديس، فقتلوه وصلبوه على باب المدينة، في واحد من المشاهد الصعبة والمؤثرة التي شهدها تاريخ المسلمين في الأندلس.

ابن ميمون: عالم اليهودية الأكبر في بلاط صلاح الدين

وفي عام 529هـ/1135م، وفي قرطبة، حاضرة الدولة الإسلامية في الأندلس، ولد موسى بن ميمون لعائلة يهودية كبيرة ذائعة الصيت والشهرة في شمال إفريقيا.

ابن ميمون، الذي يعتبره قطاع كبير من اليهود الأن، أهم شخصية يهودية عاشت في العصور الوسطى، قضى فترة قصيرة في الأندلس، ثم انتقل للإقامة في فاس، ولم يمكث فيها كثيراً، بل انتقل بعدها إلى المشرق الإسلامي فزار فلسطين ثم استقر بشكل نهائي في مصر.

رحلة ابن ميمون مكنته من تلقي العلم على يد عدد كبير من علماء وجهابذة عصره، حيث استطاع موسى أن يجمع في معارفه ما بين الطب وعلم الكلام والفلسفة ودراسة التلمود والشريعة اليهودية واللغات السريانية والعبرانية واليونانية.

ولم تكن كل تلك الملكات والمؤهلات لتخفى عن عيني السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي، الذي كان بعد انتصاره على الصليبين في معركة حطين عام 583هـ/1187م، يعمل لتحقيق نهضة علمية في بلاده.

وكان حريصاً على استقدام العلماء وأصحاب الفنون والمعارف إليها، ولهذا نجده يعين ابن ميمون كطبيب خاص له، وبعد وفاة صلاح الدين في عام 589هـ/1193م، ظل وسى بن ميمون طبيباً لابنه الملك الأفضل علي.

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً
عاجل
عاجل
السفير محمد الشناوي مُتحدثا رسميا جديدا باسم رئاسة الجمهورية