هذا لم يكن تحقيقًا صحفيًا بقدر ما هو رسالة لأبناء اليوم، ليتعرفوا كيف تعامل البعض مع آبائهم وأمهاتهم، ويتعرفوا على الحياة الأخرى التى اختاروها لهم، والذين هم فى أمس الحاجة لها.
فآباء وأمهات أكل الزمان شيئًا من حياتهم وترك بصماته الواضحة على وجوههم وأافنوا شبابهم، ليقدموا العطاء المتواصل لأبنائهم، اعتقادًا منهم أن يقابلوا هذه التضحية بالوفاء، فأصبحت دور رعاية المسنين ونوادى المسنين واقعًا حتميًا فرضته متغيرات المجتمع، إنها حقا قصص وحكايات تقشعر لها الأبدان وتتحرك لها المشاعر، وتجعلك تفكر فى إعادة حساباتك العائلية، وتحسبها جيدًا لضمان المستقبل، فكان الله فى عون كل الآباء والأمهات، الذين لا زالوا فى عون أبنائهم، وهنيئًا لكل الأبناء الذين يعاملون والديهم بإحسان.
فهناك عدة تساؤلات، أهمها التساؤل القائم حول الأسباب التى دفعت الأبناء الي الاستغناء عن والديهم، رغم أن جميع الأديان السماوية تنادى بحسن معاملتهم، قصص عديدة ممزوجة بالحزن والألم استوقفت "أهل مصر" أثناء جولته التى شملت عددًا من نزلاء دور المسنين بالأبعادية، فكل النزلاء لا تفارقهم الابتسامة رغم غدر الدنيا بهم.
بابتسامة عريضة لم تخل من المرارة روت الحاجة "د ع ب" قصتها، وقالت: عمرى 80 سنة أقيم بدار المسنين منذ 8 سنوات، كنت أقيم بقرية دسونس أم دينار التابعة لمحافظة البحيرة،متزوجة ولى 3 أولاد، فبعد وفاة زوجى منذ 10 سنوات وزواج أبنائى أصبحت وحيدة، واخترت أن يعيش ابنى معى بعد زواجه، ولكن لم يمر سوى شهور قليلة حتى شعرت بصعوبة مواصلة الحياة مع زوجته، فأنا أحتاج الى رعاية كاملة، وهى لا تقوم على رعايتى وتتركنى دائمًا، وطلبت من ابنى أن أترك العيش معهم وأقيم بدار المسنين، وصممت على ذلك تجنبًا للقيل والقال والمشاكل مع زوجة ابنى، فقررت أن أترك المنزل ليعيش ابنى حياة سعيدة مع زوجته وتوجهت لدار المسنين للإقامة بها، وتضيف أنا سعيدة ومبسوطة هنا جدًا، فالجميع هنا فى خدمتنا وتقوم الإخصائية الاجتماعية بحل مشاكلنا فى الدار أو خارجها، وأولادى يزوروننى فى المناسبات فقط ويتصلون بى بصفة دورية للاطمئنان على.
وتتابع الحاجة " ف ع ح ع " وتقول: "قلبى على ولدى انفطر وقلب ولدى على حجر" أبلغ من العمر 85 سنة أقيم بدار المسنين منذ 3 سنوات، كنت أقيم بقرية لقانة التابعة لمركز شبراخيت محافظة البحيرة، توفى زوجى تاركًا لى ولدين وبنتًا قمت على تربيتهم تربية صالحة، توفيت ابنتى الصغرى، وكنت أقيم مع ابنى الكبير وأثناء أداء صلاتى سقطت على الأرض وكسرت قدمى، فذهبوا بى إلى المستشفى العام بدمنهور، وأجريت عملية جراحية، وتم تثبيت شرائح ومسامير برجلى، وكانت زوجة ابنى لا تقوم على رعايتى، وكانت دائمًا كثيرة الشكوى لابنى، فضاقت بى الحياة وطلبت من ابنى أن أقيم بدار المسنين، فوافق علي الفور، منذ ذلك الوقت وأنا بدار المسنين، ويأتى ابنى الصغير يزورنى كل شهر، ليدفع تكاليف إقامة الدار ومصاريفى الشخصية، أما ابنى الكبير لا يأتى لزيارتى نهائيًا، وتستطرد وتقول: أنا أشيد بدار المسنين لما لمستة من خدمة ممتازة، فالجميع هنا معنا على مدار الساعة، وطبيب الدار يقوم بزيارتنا يومين في الأسبوع ويقوم بالكشف على وإعطائى العلاج، وأذا لم يكن الدواء متوفرًا بالدار يقوم مدير الدار بإحضار العلاج من خارج الدار، علاوة على الرحلات الترفيهية والمسابقات التى تقيمها الدار للترفيه عن نزلاء الدار.
وأثناء جولتنا بدار المسنين التقينا بالحاج"ع م ع " وبابتسامة لم تفارق وجهه قال: أبلغ من العمر 80 سنة ومقيم بمدينة دمنهور محافظة البحيرة، وكنت أعمل مساعد شرطة بسجن دمنهور، وأقيم بدار المسنين منذ 10 سنوات ولى ولدان وثلاثة بنات جميعهم متزوجون، منفصل عن زوجتى سنة 1997، وكنت أقيم بشقتى وحيدًا حتى هدم البيت الذى أقيم فية، فطلبت من أولادى أن أقيم بدار المسنين، حتي يعيش أولادى حياتهم العادية ولا أكون حملًا ثقيلًا على أحد، وحتى لا أضايق زوج ابنتى أو زوجة ابنى، فأنا هنا بكامل إرادتى واخدم نفسى بنفسى، وأقيم بغرفة منفردة بها مكتبتى وتوجد بها جميع كتبى التى أقضى فى القراءة وقتى كله، ويوضح قائلًا: إننى أمنع أولادى من زيارتى، فأنا لا أحتاج شفقة من أحد، بل أنا الذى أقوم بزيارتهم بعد أخذ تصريح من الدار بزيارة أولادى، وأريد من خلال جريدتكم أن أبعث نداء واستغاثة إلى الرئيس عبدالفتاح السيسى رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية، حيث إننى خدمت بالشرطة 38 سنة، وتقدمت بأكثر من شكوى لإعطائى البدل النقدى لرصيد إجازاتى، فمنذ خروجى على المعاش، وانا أطالب بحقى، ولكن لا مجيب، فأرجو أن يصل صوتى إلى الرئيس والمسؤولين.
وتقول الحاجة "ن م ق ": عندى 60 سنة وأقيم بدار المسنين منذ أكثر من سنتين، وكنت أقيم بمدينة حوش عيسى بمحافظة البحيرة متزوجة ولى 3 أولاد، فبعد وفاة زوجى أجريت عملية قلب مفتوح، وأصبت بمرض السرطان، وقام الأطباء بإزالة صدرى، فأصبحت أحتاج لرعاية أكثر من ذى قبل، ولا أجد الرعاية داخل بيتى لكثرة المشاكل بين زوجات أولادى، رغم عدم اقتناع أولادى بوجودى فى دار المسنين، إلا أننى مرتاحة هنا جدًا ودائمًا يزورنى ابنى الصغير وابنتى، أما ابنى الكبير فلا يسأل عنى ولا يتصل بى، وأضافت إننى تقدمت فى السن وأحتاج إلى راحة البال، ولا أجدها إلا فى الدار مع أصحابى، فالجميع هنا أخوات وتسود المحبة والألفة.
والتقينا خلال جولتنا بمدير مجمع دور المسنين "حسن أبو جبل" وقال: تم إنشاء دار مجمع المسنين سنة 1979 تحت مظلة الجمعية العامة لرعاية المسنين، والتى تتبع وزارة التضامن الاجتماعى ويضم مجمع دور المسنين "دار الوفاء وهى دار مشتركة، رجال وسيدات، ودار الأمل وهى خاصة بالرجال فقط، ودار الربيع وهى خاصة بالسيدات فقط "وأوضح أبوجبل أن مجمع دور المسنين يضم 35 مسنًا بين رجال وسيدات، وأن هناك شروطًا لقبول نزلاء الدار، يحددها مجلس إدارة الدار، وهى إلا يقل عمر النزيل عن 60 سنة فما فوق، وأن يكون خاليًا من الأمراض المعدية، وعن أسعار الدار قال "أبو جبل": يتم تسكين المسن بالدار بالدرجة التى تتناسب مع المعاش الذى يتقاضاه المسن، فيوجد اشتراك شهرى بالدرجة الأولى قدرة 600 جنيه، والدرجة الثانية قدرها 300 جنيه، وهناك حالات لا يتم أخذ رسوم منها فى حالة ثبوت عدم حصوله على عائد مادى وفى كلتا الحالات الرسوم لا تكفى لإعاشة المسنين، وأشار إلى أن مديرية التضامن الاجتماعى تقدم دعمًا ماديًا سنويًا لسد احتياجات ومتطلبات مجمع المسنين، وأيضًا لا يكفى هذا الدعم، فميزانية دار الوفاء وهى أقدم دار تبلغ 19 ألف جنيه سنويًا، وميزانية دار الأمل والربيع تبلغ 55 ألف جنيه لكل منهما، وتسآءل مدير مجمع دار المسنين كيف لهذه الميزانية أن تكفى إقامة كاملة للنزلاء الدار فى ظل ارتفاع الأسعار الموجود، فبند الميزانية فقط يستهلك نصف الميزانية.
أما عن الرعاية الصحية فأوضح "أبو جبل" أنه توجد عيادة بالمجمع بها طبيب باطنى وممرضتان على مدار اليوم للكشف على المسنين وإعطاءهم علاجًا مجانياُ وان لم يتوفر الدواء بالدار يتم شراؤه من خارج الدار، أما عن الرعاية النفسية والاجتماعية فيوجد أخصائيون اجتماعيون مدربون على التعامل مع المسنين وأيضا حل جميع المشاكل والمعوقات التى تقابل المسنين، وكذلك الإشراف على وجباتهم الغذائية وأيضا نظافتهم الشخصية، وأيضا عمل رحلات وبرامج ترفيهية للمسنين ويوجد مسجد للصلاة.
وأكد مدير المجمع أنه يوجد لجنة بالدار لتنمية موارد المجمع، وذلك لسد تكاليف إعاشة المسنين تشتمل على عمل مجموعة من المشروعات مثل "مشروع تربية الدواجن ومشاريع غذائية لعمل المربات والمخللات والرقاق والفطير" وتم عمل منافذ لبيع منتجات التصنيع.
وقالت سامية خطاب رئيس مجلس إدارة جمعية الأيادى الرحيمة لتنمية المجتمع بمدينة دمنهور محافظة البحيرة والمشهرة برقم 2282 لسنة 2016 أن الجمعية تقوم بأنشطة متنوعة لخدمة شرائح متعددة فى المجتمع البحراوى من الناحية الإنسانية والاجتماعية وتدعم المبادرات التى من شأنها أن تساهم فى تعزيز مبدأ التكافل الاجتماعى.
وأضافت رئيس مجلس إدارة الجمعية أنه فى إطار تلك المبادرات قامت الجمعية بزيارة ميدانية لمجمع دور المسنين بالأبعادية، وذلك لرسم السعادة والبهجة على نزلاء الدار ومد جسور التواصل معهم، مؤكدة أن تلك الزيارات ترفع من الروح المعنوية للمسنين وتعطيهم دافعًا قويًا بأنهم ما يزالون فعالين فى مجتمعهم.
وأشارت إلى أن أعضاء الجمعية قاموا خلال الزيارة بتوزيع بعض الهدايا على المسنين وتقديم وجبات ساخنة لهم، وقمنا بعمل مسابقات ترفيهية تفاعل معها المسنون وعبر نزلاء الدار عن مدى سعادتهم بهذه الزيارة متمنين أن تستمر تلك الزيارات.
هكذا هى حال نزلاء مجمع دور المسنين بالأبعادية، حيث يعتبر هذا مؤشرًا خطيرًا على التفكك والانحلال فى القيم الأخلاقية والاجتماعية للمجتمع، فكيف يستطيع إنسان أن يرمى من حملتة وهنًا على وهن، هل مات قلبة على من ضحوا بكل شىء من أجله، إنها مشاهد تنفطر لها القلوب.