اعلان

الدولة يمكن أن تبيع الترمس أحيانًا

مع أن الرئيس لم يستجب لمطلب النقابة بإعادة النظر فى القانون، إلا أن إذاعة هذا الطلب على لسان وكيل النقابة، ورد الرئيس عليه، قد نبّها الرأى العام - وفى مقدمته الصحافيون أنفسهم - إلى أن هناك أزمة مكتومة بين الدولة والصحفيين، بشأن القانون رقم 93 لسنة 1999 ذكرتنى بعض مشاهد الأزمة التى تفجرت فى الأسبوع الماضى بين الصحافيين والحكومة المصرية، بمشاهد أزمة مشابهة، حدثت فى مثل هذه الأيام منذ 21 عاما، حيث فوجئ الصحافيون بأن الحكومة التى كانت قائمة آنذاك، تقدم - فى أواخر مايو 1995 - إلى المجلس النيابى مشروع قانون يقضى بتغليظ عقوبة الحبس فى جرائم النشر، ويدخل على بعض مواد قانون العقوبات الخاصة بهذه الجرائم تعديلات فى الصياغة توسع من نطاق التأثيم وتضيف إلى الجرائم القائمة جرائم جديدة، وبسرعة غير معهودة، مر المشروع من لجان المجلس، وخلال يومين من تقديمه، كان قد أقر، وحين تنبه الصحافيون والمهتمون بحرية الصحافة إلى خطورته كان القانون قد أحيل على رئيس الجمهورية حسنى مبارك، لكى يصادق عليه ويصدره طبقًا للدستور.

حدث ذلك قبل ثلاثة أيام من الاحتفال بعيد الإعلاميين، الذى كان يقام آنذاك فى 31 مايو من كل عام، وهو ذكرى تأسيس الإذاعة الرسمية للمملكة المصرية فى عام 1934، واتصل بى الزميل والصديق الراحل “مجدى مهنا” - وكان عضوًا بمجلس النقابة آنذاك - ليقول لى إن رئاسة الجمهورية قد دعت وكيل النقابة جلال عيسى لإلقاء كلمة النقابة فى الاحتفال أمام الرئيس مبارك، كما جرت العادة كل عام، بسبب غياب نقيب الصحافيين “إبراهيم نافع” خارج البلاد، وإن هناك اتجاهًا داخل المجلس يطالب “جلال عيسى” بمقاطعة الاحتفال وبعدم حضوره أو إلقاء خطاب فيه، احتجاجًا على القانون الذى يغتال حرية الصحافة، وإن “جلال عيسى” نفسه يميل إلى ذلك، وإنه - رأى أن يستشيرنى - بحكم زمالتنا السابقة فى عضوية مجلس النقابة - عن مدى ملاءمة هذه الخطوة.

وكان من رأيى أن خطوة من هذا النوع سابقة لأوانها، لأنها سوف تضع النقابة فى مواجهة مع رئيس الدولة، إذ هى تنطوى على شكل من أشكال التحدى، لا يتلاءم مع موازين القوى التى كانت ساندة فى ذلك الوقت، فضلًا عن أن دلالتها قد تغيب عن الرأى العام.

واقترحت بديلًا عن ذلك، أن يحضر “جلال عيسى” اللقاء، وأن يلقى كلمته أمام الرئيس، وأن يختمها بعبارات تشير إلى اعتراض نقابة الصحافيين على القانون، ومناشدتها للرئيس بأن يستخدم سلطاته الدستورية، فيرفض التصديق عليه، ويردّه إلى المجلس النيابى لكى يعيد المداولة فيه.

لكن الفقرة مع ذلك استفزت مبارك، الذى لم يكن يتوقع أن يجرؤ أحد الصحافيين المحسوبين على النظام على إثارة مثل هذا الموضوع علنًا، وفى احتفال عام ورسمى يذاع على الهواء فى كل قنوات التلفزيون ومحطات الإذاعة الحكومية، وقال تعليقًا عليها - فى خطابه الذى ألقاه بعد انتهاء كلمة “جلال عيسى” - إن القانون قد صدر بالفعل وإن الدولة “لا تبيع الترمس” حتى يطلب أحد منها مثل هذا الطلب، فى إشارة إلى أنها لا تقبل المساومة فى قراراتها أو التراجع عن مشروعات القوانين التى تقدمها إلى السلطة التشريعية.. وظل غاضبًا على المرحوم “جلال عيسى”- الذى نقل فيما بعد إلى مواقع صحافية لا تليق بتاريخه - وكان تقديره - كما قال - إن ذلك حدث تأديبًا له على تجرؤه على إلقاء هذه الفقرة من خطابه أمام الرئيس.

ومع أن الرئيس لم يستجب لمطلب النقابة بإعادة النظر فى القانون، إلا أن إذاعة هذا الطلب على لسان وكيل النقابة، ورد الرئيس عليه، قد نبّها الرأى العام - وفى مقدمته الصحافيون أنفسهم - إلى أن هناك أزمة مكتومة بين الدولة والصحفيين، بشأن القانون رقم 93 لسنة 1999.. ودعا مجلس النقابة إلى اجتماع حضره عدد من النقابيين السابقين، وأسفر عن الدعوة إلى اجتماع عام لمناقشة الموقف، وكان الاجتماع عاصفًا وحضره عدد ملحوظ من الصحافيين، تناوبوا على الحديث عن مخاطر القانون على حرية الصحافة، ومع أن كلمات البعض منهم - خاصة الشباب - لم تخل من شطط، إلا أنه كان شططًا محسوبًا، لم يتجاوز أدب الحوار، أو موضوع الخلاف، إذ كان واضحًا أمام الجميع، أنهم يواجهون دولة قائمة، وقانونًا صدر بالفعل عن السلطة التى تملك إصداره، وأن الانتصار فى مثل هذه المعركة يتطلب درجة من الحصافة والمرونة تحافظ على وحدتهم، وتسعى إلى تحويل بعض الأعداء إلى محايدين، وتنقل المحايدين إلى خانة المؤيدين.. وانتهى الاجتماع التداولى إلى مطالبة مجلس النقابة بالدعوة إلى اجتماع طارئ للجمعية العمومية للنقابة، لعرض الأمر عليها.

فى مساء ذلك اليوم، اتصل بى هاتفيًا “د. أسامة الباز” - وكان يعمل آنذاك وكيلًا أول لوزارة الخارجية ومستشارًا سياسيًا للرئيس ولم أكن قد التقيت به فيما عدا المناسبات العامة سوى مرة واحدة - وسألنى عن أسباب غضب الصحافيين خاصة الشباب منهم، وعن رؤيتى لمواجهة الأزمة، ودار بيننا حوار طويل، تمنيت خلاله على “الباز” أن يستخدم نفوذه، حتى نستطيع التوصل إلى نقطة بداية مقبولة من كل الأطراف، وكان من رأيى أن الرئيس قد أقحم نفسه فى الأزمة، باعتباره طرفًا فيها بعبارة “إحنا ما بنبعش ترمس” التى وردت فى رده على “جلال عيسى”، لأنها عبارة تستخدم فى العامية المصرية، للإشارة إلى رفض الحوار وعدم الرغبة فى الاتفاق مع الطرف الآخر، فى حين نظر الصحافيون إلى الرئيس باعتباره طرفًا محايدًا، ينص الدستور على أنه حكم بين السلطات، لذلك طالبوه بأن يرد القانون إلى المجلس التشريعى لكى يعيد مناقشته فى ضوء الاعتراضات التى أبداها الصحافيون عليه.. وأن نقطة البداية فى مواجهة الأزمة، هى أن ينأى الرئيس بنفسه عن إعلان انحيازه لطرف من أطرافها، لأن مشكلتنا كصحافيين مع الحكومة لا مع الدولة، ومن واجب الرئيس أن يدير الحوار بين المختلفين.

وبعدها بأيام، دعا الرئيس مبارك مجلس نقابة الصحافيين للاجتماع به، ليكون هذا الاجتماع بداية الحوار، الذى أسفر بعد عام، عن إلغاء القانون الذى كان سببًا للأزمة، واكتشف الجميع أن الدولة يمكن أحيانًا أن تبيع الترمس!

نقلا عن” موقع 24”

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً