طلقات رصاص تنظيم "داعش" الإرهابي تخترق هدوء صباح ثاني أكبر مدينة عراقية، بحثًا عن ضحية جديدة، فأفراد التنظيم في اشتياق لرائحة دماء الأبرياء، من أبناء الموصل، أما أعينهم فلا تجد ما يثير انتباهها إلا المنازل التي تحولت لحطام يرقد أسفلها أطفال ملطخة ملابسهم بالدماء، لكن في أحد منازل تلك المدينة التي لا تخلو من الضجيج لم تعد الرصاصات والقنابل وأصوات الإرهابيين لفت انتباه "عمر طلال" رسام قصص الأطفال، الذي تفصله 3 سنوات عن سن الأربعين.
في غرفة صغيرة لا تخلو من نافذة زجاجية مغطاة بورق الزينة تتسلل عبر فرجاتها خيوط الشمس الذهبية، يجلس "عمر طلال حسن عبد الرحمن"، يستقر أمامه عشرات الأقلام التي يحمل كل منهم لونًا غير الآخر، تتحرك يده التي تحمل القلم الرصاص ذو السن الحاد على الورق الأبيض، فتصل الخطوط ببعضها البعض لخلق حكايات أطفال على هيئة رسوم "أنا أعمل مدرس في معهد الفنون الجميلة للبنات العراق نينوى وأعمال رسام قصص أطفال في عدد من مجالات الأطفال العربية منهم (نور وسمير ومجنون) في مصر"، كانت تلك هي المهن التي يستطيع من خلالها "طلال" إيجاد رزق عائلته.
وقوع الموصل في قبضة تنظيم "داعش" الإرهابي، أطاح بوظيفة "طلال" في معهد الفنون الجميلة، الذي أغلقت أبوابه في وجه الطلاب والمدرسين منذ 3 سنوات، فيقول طلال الذي ولد عام 1979 لـ"أهل مصر": "كل الصدق الذي انقذني اني أعيش أنا وعائلتي في بيت والدي الدولة العراقية كانت تعطي فقط للمتقاعدين الراتب ووالدي معلم متقاعد وكنا نعيش بستر رب العالمين على راتب والدي، كان الحال لايوصف تصوري أنك لمدة ثلاث سنوات لاتستلمين الراتب".
لم ينفصل "طلال" الذي رزق بطفلين منذ عدة أعوام، عن الرسم رغم غلق المعهد، فيروي تلك الفترة التي بدأت في نهاية عام 2014: "كنت اتواصل مع طلابي في حدود الاطمئنان، في الوقت ذاته استمريت بالرسم، أنا ارسم للأطفال النصوص، بكل صدق كله رسم كنوع من الهروب، والذي يهون هو زيارة الأصدقاء والأقارب ليعطينا نوع من الصبر والقوة".
لم يكن اختيار "طلال" لرسومات الأطفال من باب الصدفة، فوالده كان كاتبًا لقصص الأطفال "والدي من رواد كتاب الأطفال في العراق وكانت بداية تجربتي معه في رسم الأطفال مع الوقت أحسست أن رسوم الأطفال فيها متعة لاتوصف وعالم رائع بعيدة عن هذا العالم، وأثناء الحرب كنت اعطي التمارين لأصدقائي لكثرتها واعطيها بصناديق لعدم توفر المكان لخزنها في منزلي، لأن الأطفال لايستوعبون الدراسات والتمارين الذي يستفيد منها طالب الفن"- حسبما وصف.
3 سنوات كانت قادرة على خلق جرح في قلب رسام الأطفال، فيروي مشاعره التي كانت تذبح قلبه كل ليلة كلما تصاعدت رصاصات "داعش" في وجه الأطفال والشيوخ والنساء: " للأسف الشديد الحال لايوصف، الموصل مدينة متحضرة ثاني أكبر محافظة بعد العاصمة بغداد خلال ثلاث سنوات رجعت إلى العصر الجاهلي، وبالرغم من التحرر لكن أثرها كالجرح الكبير، داعش وبعدها معارك التحرير أقرب بالحرب العالمية لا داعي للخوف ملت قلوبنا".
الخروج من المنزل لم يكن جزءً من حياة "طلال" اليومية، فيروي أحد المواقف التي تعرض لها مع أحد الباعة: "في إحدى المرات ذهبت لاشتري من الدكان يبعد عن بيتنا شارعان فسألني هل انت جديد في المنطقة قلت له أنا ولدت في هذه المنطقة فاستغرب؛ السبب أني لا أخرج إلا نادرًا من البيت، فالرسم يأخذ كل وقتي".
يصف "طلال" الذي تخرج عام 2004، وبدأ عمله مدرسًا بالمعهد بعد عام من التخرج، تنظيم "داعش" بـ" داعش كان لعبة دولية ونحن ضحاياها، وخلال الـ3 سنوات الماضية كنت أخاف على جميع أفراد العائلة الكبير والصغير، الأصعب من الثلاثة سنوات أشهر التحرير لاني أنا والعائلة وسط المعارك، والحمد لله تحررنا أول شهرين والتحرير الكامل استمر 9 أشهر".
استطاع "طلال" من خلال صفحته على "فيس بوك" أن يتواصل مع القائمين على عدة مجلات للأطفال، فيقول: "الحمد لله إن لدي صفحة على الفيس منذ أكثر من 5 سنوات أتابع المجلات والفنانين والكتاب وهم أيضًا يتابعون صفحتي وتأتي الفرص مع الوقت والمثابرة أول تجربة كانت مع الدكتورة الرائعة نهى عباس في مجلة مجنون وبعدها نور ومجلة سمير ووسام الأردنية والمجلات العراقية والكثير من المجلات في الوطن العربي وهم يرسلون النص وأنا أرسم على الورق ومن ثم برامج الكمبيوتر ويتم تحويل المكافأة بعد ذلك على حسابي".
رغم الحرب التي عاش "طلال" بها، إلا أنه دائمًا ما يهرب من رسومات الأطفال الحزينة، ويكشف عن أسباب ذلك بقوله: " لا أحب أن أرسم عن الحرب أبدًا المواضيع التي أحبها التي تحتوي على الكوميديا والضحك وبالأخص إذا موجه للطفل، وهناك جانب آخر من رسوم لم انشر منه إلا القليل يحتوي على الجانب الثاني الأقرب إلى الحزن فالفن العراقي معروف بهذا الجانب وتلمسوه بالأغاني العراقية منذ عقود والأغاني العراقية والفن العراقي بجميع تشكيلات يخيم عليه الحزن".
فور تحرير الموصل من تنظيم "داعش" الإرهابي، أخذ "طلال" يتواصل مع مجلات الأطفال بمختلف أنواعها، فيقول: "أرسلت الرسومات التي رسمتها خلال الـ3 سنوات، فور عودة الأنترنت إلى المجلات، وأصبح لدي سيناريو ثابت عن طفلة من الريف تقوم بمغامرات، لكن مع التزامي بأكثر من مجلة أخذ سيناريو واحد فقط وهو يتكون من صفحتين ويستغرق ذلك من الوقت أسبوع كامل".
لم يكن المال هو الهدف الوحيد من عمل مدرس الفنون الجميلة مع مجلات الأطفال "المال مش مهم، العلم أهم بكتير، وفي بعض الأحيان يتصل مسؤول عن المجلة وهو صديق ويقول نريد مادة لكن لا تسمح ميزانية المجلة بصرف مكافة، فاعطيهم دون مقابل".
العمل بمجلات الأطفال ليست وظيفة قادرة على توفير مستوى معيشة مرتفعة، فيعبر "طلال" عن وجهة نظره في العمل برسومات الأطفال: " المشكلة إن الوظيفة توفر لك المعيشة ولكن بالمقابل تأثر على الجانب المهم وهو رسوم الأطفال الرسم في المجلات وهو سعادتي، لكنه لا يوفر المعيشة؛ نظرًا لعدم دعم الدولة لهذا الجانب من الفن".
"فور عودتي إلى المعهد بعد التحرر من (داعش)، كنت سعيد بدرجة لاتوصف؛ شعرت أني بالجنة، أنا درست 5 سنوات معهد وبعدها 5 سنوات كلية ودرست 13 في المعهد فالذي درست معه أصبح زميلي وأصدقائي في فترة الدراسة اصبحو مدرسين معي وطلابنا اصبحو زملائنا في التدريس، وجو طلاب الفن جو لا يوصف رائع بكل المقايس ولكن الذي اتمناه بكل صدق أن اتفرغ إلى رسم الأطفال".
حياة الحرب التي عاشها "طلال" خلال الـ3 سنوات الماضية "أنه الجحيم بعينه" حسبما وصفه، دفعته لتكوين وجهة نظر عن ما يشهده العالم العربي من حروب، فيقول: " كل بلد لأزم يحافظ على نفسه وعدم التدخل بأمور الثاني لأننا دفعنا ولازلنا ندفع ثمن هذه التدخلات والتي يبقى من يدفع الثمن المواطن البسيط".