صدرت مؤخرا الطبعة الثانية من كتاب "الشعراوى تحت قبة البرلمان " للكاتب الصحفى المخضرم محمد المصرى المتخصص فى الشئون البرلمانية لأكثر من 40 عاما.
وتأتي هذه الطبعة في الوقت الذى هاجمت فيه إحدى الكاتبات، الشيخ محمد متولى الشعراوى - فقيه القرن العشرين - وأدعت انه كان أداة لتفتيت الوطن وإثارة الفتنة، وزعمت أنه سجد شكرا لله بعد هزيمة مصر في حرب 1967، وغيرها من الاتهامات الباطلة والمزعومة التي تصدى لها مجلس النواب فى جلساته الأخيرة.
والكتاب يلقى الضوء على جوانب جديدة وخفية فى شخصية الشيخ محمد متولى الشعراوى يجهلها الكثيرون ولا يعرفونها عنه رحمه الله، فالكل يعرف عنه - إلا قليلًا - أنه فقيه القرن العشرين بلا منازع وقدم لنا خواطره عن القرآن الكريم بأسلوب جديد وسهل وبسيط لم نعهده من قبل واستطاع الشيخ الشعراوى تجديد الخطاب الدينى الذى يعتمد على مخاطبة العقل والوجدان والوسطيه دون الدخول فى الخلافات الفقهية بين العلماء والمفسرين التى تفرق أكثر مما تجمع.! أو المغالاة أو الشطط فى التفسير والاعتماد على القصص والحكايات التى لا فائدة ولا طائل منها، واستفدنا كثيرا من تفسيراته لبعض الآيات التى كانت غائبة عنا، وحسم العديد من القضايا الخلافية بين العلماء.
لكن كتاب " الشعراوى تحت قبة البرلمان " تعرض للشيخ الشعراوى المحنك سياسيًا الذى كان يعيش مشاكل مجتمعه بكل تفاصيله.. ويشارك فى حلها.. فهو لم يجلس فى برج عاجى أو ينعزل عن الناس فى خلوة بعيدًا عنهم كما يقول المؤلف محمد المصرى.. ولكنه كان يخوض المعارك السياسية ضد الفساد ويتصدى له عندما كان وزيرًا للأوقاف وشئون الأزهر فى عام 1977 فى وزارة ممدوح سالم.. واستطاع الوقوف ضد قوى الباطل فى المجلس الأعلى للشئون الإسلامية والتصدى لرئيسه الذى كان يدعى انه أحد مراكز القوى وأنه فوق القانون ولا أحد يستطيع الوقوف أمامه أو محاسبته !
والكتاب فى طبعته الجديدة يستطيع القارئ أن يلمس بعض الإضافات التى يرى الكاتب انها تفتح مجالًا للمناقشة حول اوضاعنا السياسية والبرلمانية فى تلك الفترة المهمة من حياتنا والتحول من النظام الشمولى الذى كان ممثلا فى تنظيم الاتحاد الاشتراكى إلى نظام تعدد الأحزاب السياسية وتم تزويد الكتاب ببعض الصور الجديدة التى لم تنشر من قبل.
ويتعرض الكاتب محمد المصرى لأحداث الاستجواب الشهير الذى تقدم به النائب المعارض القدير عادل عيد عن الفساد الذى استشرى فى المجلس الأعلى للشئون الأسلامية والذى كان يتبع وزارة الأوقاف دستوريًا وقانونيًا.. وكان الشيخ الشعراوى طبقا للأعراف البرلمانية متهما ًبالتقصير فى محاسبة رئيس المجلس الأعلى للشئون الاسلامية.
ويقول المؤلف الذى كان شاهدا على هذه الأحداث أن الشيخ الشعراوى فى هذه الجلسة التى عقدت فى مارس 1978 وماتلاها من جلسات حول ذات الموضوع أنه بالإضافه إلى أنه كان داعية مقنعًا وخطيبًا مفوهًا فإنه كان أيضا سياسيًا محنكًا، فقد جاء إلى المجلس فى يوم الاستجواب بخطى ثابته وواثقة واستطاع فى هذه الجلسة التاريخية أن يقلب الاتهام الموجه إليه إلى تأييد ساحق من الأعضاء سواء من الأغلبية أو المعارضة للكيفية التى تصدى بها للفساد فى المجلس الأعلى للشئون الإسلامية والوقوف فى وجه الأمين العام للمجلس الأعلى "محمد توفيق عويضة " الذى عاث فى المجلس فسادًا لسنوات طويلة قبل أن يتولى الشيخ الشعراوى مقاليد الوزارة، والتى لم يجلس فى مقعد الوزير فيها سوى سنة واحدة فقط وعشرة أشهر و25 يومًا.
وينقل الكتاب السجال الذى حدث بين الشيخ الشعراوى والشيخ عاشور محمد نصر عضو حزب الوفد فى هذه الجلسة حول الرئيس أنور السادات عندما قال الشيخ الشعراوى: "والذى نفسى بيده لو كان لى من الأمر شئ لحكمت للرجل الذى رفعنا تلك الرفعة، وانتشلنا مما كنا فيه إلى قمة.. ألا يُسأل عما يفعل !".
ولكن الشيخ عاشور يعترض عليه ويقول له بكل إنفعال: " اتق الله يارجل.. مفيش حد فوق المساءلة، لترع الله ".
ويرد عليه الشيخ الشعراوى: "اجلس أنا أعرف بالله منك " ومضى يقول " إن الرجل الذى شجع هذه الشجاعات المختلفة يجب أن نقدر كل قراراته وكل آرائه تقديرًا فى مستوى ماوضعه الله فى أيدى البشر".
وأوضح الشيخ الشعراوى فى جلسة اخرى ينقلها لنا المؤلف بكل تفاصيلها - أنه كان يقصد أن سوابق الرجل – أي الرئيس محمد أنور السادات – تجعلنا نأتمنه علي ما يتخذه من قرارات لأنه قد أثبت أنه رجل يريد أن يصحح أوضاعًا فاسدة، ولأنه رجل اجتمعت عليه أمور داخلية وأمور خارجية، فإذا كان قد أعطي قرارًا لسفر إنسان دون أن يرجع إليّ فإنني أقدر ظروف سيادته فيما يريد أن يعمله مما لا يجب أن يعلمه مثلي.
وكان الشيخ الشعراوي بالطبع يقصد قرارات السفر التي يسافر بها توفيق عويضه للخارج دون الرجوع إلى رئيسه المباشر.. وهو وزير الاوقاف.
وعن عبارة:" ان السادات لا يسأل عما يفعل ؟"، قال الشيخ موضحًا أنه قال: أن مثل هذا الرجل يجب ألا أسأله عما يفعل فلما اعترض السيد العضو علي كلامي.. قلت له " أنا أعرف بالله منك "، وقد قصدت أنه يجب ألا يسأل عما يفعل في الأمور التي يري فيها مصلحة.. ولا يجب أن يعلنها للناس.لأن الإعلان عنها أو معرفة أسبابها قد يفسد الهدف منها.
ووجه الشيخ الشعراوي حديثه للشيخ عاشور قائلًا: "إذا كان السيد العضو عاشور محمد نصر قد فهم مني غير ذلك فإنني أستغفر الله مما فهم.. وأستغفر الله فيما فهم".
وأضاف الشيخ الشعراوي: "لا يمكن لمثلي.. وأنتم تعرفون من هو.. أن يزل هذه الزلة أمام الله سبحانه وتعالي.. وأنني أعلم جيدًا أن السيد الرئيس محمد أنور السادات رجل مأمون على دينه وهب أننى قلت ذلك، فإن ما قلته كان سيغضب منى الرئيس أنور السادات لأنني أعرف دينه وأعرف غضبه.
ويرد المؤلف بالوثائق والمستندات على هؤلاء الذين يتهمون الشيخ الشعراوى زورًا وبهتانًا وكذبًا بأنه كان أحد أسباب التطرف فى مصر.. وأنه من علماء السلطة للأسف الشديد بقوله: إن الشيخ الشعرواى كان يتصدى بكل قوة لأمراء الجماعات المتطرفة وأعضاء جماعة التكفير والهجرة الذين كانوا يتهمون الناس زورًا وبهتانًا بالكفر ويحرمون الانخراط فى مؤسسات الدولة، وكشف ما يتعرض له الإسلام من مؤامرات من خصومهم فى المؤتمر الذي عقد في الجامع الأزهر فى يناير 1989
وقال عن مصر: "إنها البلد المعطاء التى صدّرت الإسلام إلى كل دول العالم بما فيها البلد الذى نزلت فيه الرسالة، وأن مصر هى التى حملت لواء الدفاع عن الإسلام أمام جحافل التتار والصليبيين، فكيف نقول عنها إنها أمة كافرة.. وهى بلد الأزهر وسيدنا الحسين رضى الله عنه وملاذ آل البيت والعلماء والباحثين".
وأكد الشيخ الشعراوى وكان معه الشيخ محمد الغزالى والدكتور الطيب النجار فى هذا المؤتمر أن خصوم الإسلام عندما لم يقدروا على الإسلام فى ذواتهم، فدخلوا عليه من أبنائه، وجعلوا لكل واحد أملًا فى أن يكون أميرًا أو حاكمًا!.
ورد على هؤلاء أيضا عندما قال بالحرف الواحد: "اعلموا جيدًا أننى كما قال أخى الشيخ الغزالى اننى لست من علماء السلطة.. فأنا الوحيد فى مصر الذى رد قرارات جمهورية.. ولم يستمع لها فى تاريخها كلها، ملكية أو جمهورية.. فلا يستطيع أحد أن يتهمنا أبدًا بأننا علماء سلطة".
وكان الشيخ الشعراوى يقصد أنه رد قرار رئيس الجمهورية أنور السادات بتعيينه عضوًا فى مجلس الشورى عام 1980 ورفض هذا التعيين الذى كان يتمناه الكثيرون ويحلمون به فى ذلك الوقت!
ان كتاب "الشعراوى تحت قبة البرلمان " فى طبعته الجديدة يكشف لنا عن العديد من المعارك التى حدثت فى مجلس الشعب فى سبعينيات القرن الماضى وينقلها لنا الكاتب محمد المصرى الذى كان شاهدا عليها ومعاصرا لها.. وكان يرأس هذا المجلس المهندس سيد مرعى الذى يعتبره المؤلف من أقدر وأفضل وأبرع من تولوا منصب رئاسة البرلمان المصرى فى تاريخ حياتنا البرلمانية المصرية.
ويكفي كما يقول محمد المصري: أنه تولى رئاسة مجلس الشعب فى أصعب فترات الحياة السياسية المصرية فى ذلك الوقت. وتحول النظام السياسى المصرىمن نظام الحزب الواحد إلى نظام المنابر السياسية الذى سمح الرئيس السادات بتكوينها لتعمل من داخل الإتحاد الاشتراكى ولكن مع تدفق الطلبات لتكوين المنابر السياسية المختلفة لتمثيل جميع الأتجاهات السياسية، ثم أصدر الرئيس السادات قراره فى مارس 1976 بتكوين ثلاثة منابر فقط.. وهى منبر اليمين ومنبر الوسط ومنبر اليسار.. ثم قرر أن تسمى باسم التنظيمات فأطلق عليها اسماء تنظيم مصر العربى الاشتراكى، ثم تنظيم الأحرار الاشتراكيين ثم تنظيم التجمع الوطنى الديقراطى حيث خاضت هذه التنظيمات الثلاثة انتخابات مجلس الشعب فى عام 1976.
وفى يوم افتتاح دورة مجلس الشعب فى 11نوفمبر 1976 أعلن الرئيس السادات قراره التاريخى بتحويل هذه التنظيمات الثلاثة إلى أحزاب سياسية لتمارس دورها في الحياة السياسية المصرية بعد تعديل دستور ١٩٧١ الدائم، وبناء على الاستفتاء الذي جرى في ٢٢ مايو ١٩٨٠، نصت المادة الخامسة من الدستور على أن " يقوم النظام السياسي في جمهورية مصر العربية على أساس تعدد الأحزاب، وذلك في إطار المقومات والمبادىء الأساسية للمجتمع المصري المنصوص عليها في الدستور، وينظم القانون الأحزاب السياسية ".
وقد لعب المهندس سيد مرعي دورًا مهمًا في التنسيق البرلماني بين هذه الأحزاب السياسية تحت القبة، واستطاع بفضل حنكته السياسية وخبرته البرلمانية الطويلة أن يكون حكمًا محايدًا بين الأغلبية والمعارضة تحت قبة البرلمان.