يبدو أن القضية الفلسطينية وأبنائها لم يُكتب عليهم مقاومة الاحتلال الغاشم فقط، إنما كتب عليهم مقاومة المرض أيضًا، آخر هؤلاء المقاومين المطربة الفلسطينية الراحلة ريم بنّا، التي رحلت عن عالمنا اليوم السبت، عن عمر يناهز 51 عاما.
فالخوف واليأس، هما التوأم الملتصق الذي يصاحب مرض السرطان متى حل بالجسد إلا أن جسد الفنانة الفلسطينية ريم كغيرها، حيث حملت لهذا المرض منذ تسلله إلى جسدها، وصف مختلف ووجهة نظر لا تتناسب مع اليأس، فقد اعتبرته "طفلها المعاق" الذي يجب أن تحتضنه وتلاعبة وتعطيه دواءه، حتى يتماثل للشفاء حسب ما قالت عنه.. فلم يهزمها السرطان، وظلّت تغنّي وتقاوم الأمر الذي لا يقل عن المقاومة بالسلاح لتبدأ مقاوتها مع المرض بجانب مقاومتها للقضية الفلسطينية منذ ثماني سنوات.
واكتشفت ريم المرض عندما أَجرت فحوصًا طبية، نظرًا لشعورها آنذاك أنها ليست على ما يرام، لتأكد أنها تشعر أن نتيجة الفحص لن تكون في صالح جسدها، لتكشف عن استيطان جديد يتوغل داخل جسدها ، وظلت تقاوم كما أنها لم تتوقف عن مقاوت الإستيطان الكبير بالغناء.
لكن بيد أن المقاومة بالصوت الطربّي عانت كثيرًا حتّى أرهقها مرض آخر أثر علي نضالها وهو الشلل اليساري الذي يُضعف عصب الصوت، وهو ما اضطرها للخضوع لعملية جراحية ،لتعود من جديد في إستأناف رحلتيها مع المقاومه .
ميلاد مطربة المقاومة:
ولدت المطربة والمغنية ريم بنا في مدينة الناصرة الفلسطينية بتاريخ 6 ديسمبر عام 1966، والدتها هي زهيرة صباغ، الشاعرة المعروفة ورائدة الحركة النسوية في فلسطين، وكانت ريم محبة للغناء منذ حداثة سنها، فكانت تحرص دائمًا على المشاركة في المهرجانات والمناسبات الوطنية التي كانت تقام في مسقط رأسها، بالإضافة طبعًا إلى المشاركة في الاحتفالات التي كانت تقام في المدرسة المعمدانية حيث تلقت تعليمها.ازداد شغف ريم بالموسيقى مع مرور السنوات، وعندما تخرجت من المدرسة الثانوية، قررت احتراف الغناء فسافرت إلى موسكو للدراسة في المعهد العالي للموسيقى، وفي عام 1991، تخرجت ريم في المعهد بعد أن قضت نحو 6 سنوات من الدراسة الأكاديمية.
حياتها الشخصية:تزوجت ريم بنا من الأوكراني ليونيد أليكسيانكو، وهو زميلها السابق في المعهد العالي للموسيقى، وقد عمل الزوجان معًا في تأليف الأغاني وتلحينها، ورزقا خلال زواجهما بثلاثة أطفال، بيد أن علاقتهما قد تدهورت لينتهي الأمر بانفصالهما ، وبعد الطلاق، عادت ريم للعيش في الناصرة مع أولادها.
أعمالها:• أطلقت ريم ألبومها الغنائي الأول "جفرا" في عام 1985، وقد اختارت اسمه تيمنًا بالأغنية التراثية الفلسطينية جفرا.• وفي عام 1986، أطلقت ألبومها الغنائي الثاني بعنوان "دموعك يا أمي".• تابعت ريم مشوارها الفني خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي، وسعت في تلك الفترة إلى إحياء الأغاني الفلسطينية القديمة، ولاسيما أغاني الأطفال، فسجلت نسخ جديدة من تلك الأغاني، فساهمت بذلك مساهمة جليلة في إحياء التراث الفلسطيني والحفاظ عليه بعدما أضحى طي النسيان.• كما حرصت ريم على المشاركة في مهرجانات الأطفال وتأدية تلك الأغاني أمامهم، مما أدى إلى انتشارها بصورة واسعة في أوساطهم.• في عام 1993، أطلقت ريم ألبومًا ثالثًا حمل عنوان "الحلم"، وبعدها أطلقت ألبومين غنائيين للأطفال هما: "قمر أبو ليلة" عام 1995، و"مكاغاة" عام 1996.• بعدها عادت ريم مجددًا إلى خط الغناء الوطني الملتزم، فأصدرت ألبومًا وطنيًا اسمه "وحدها بتبقى القدس" عام 2001.• ذاع صيت ريم بنا في البلدان الأوروبية بعدما شاركت في ألبوم غنائي اسمه "تهويدات من محور الشر Lullabies from the Axis of Evil" إلى جانب المغنية كاري بريمنس Kari Bremnes، إذ سافرت ريم إلى النرويج كي تقدم حفلة فنية مشتركة معها.• تضمنت فكرة هذا الألبوم وجود مغنيات من بلدان محور الشر- مصطلح أطلقته إدارة الرئيس بوش على عدد من البلدان المناهضة للسياسات الأمريكية- تغنين تهويدات من ثقافة بلادهن.• وهكذا كان هذا الألبوم أشبه برسالة موسيقية رافضة للحرب، ومعارضة لسياسات الرئيس الأمريكي جورج بوش.• تابعت ريم تقديم الأغاني الوطنية، فأطلقت ألبوم "مرايا الروح" الذي أهدته إلى الأسرى الفلسطينيين والعرب في السجون الإسرائيلية. تميز هذا الألبوم عن سابقيه بموسيقى أغانيه التي مزجت بين نمط البوب وبين الأسلوب الشرقي، فكان مختلفًا عما قدمته ريم سابقًا.• في عام 2006، أصدرت ريم ألبوم "لم تكن تلك حياتي"، وأهدته إلى الشعبين اللبناني والفلسطيني. وفي العام التالي، أطلقت ألبوم "مواسم البنفسج: أغاني حب من فلسطين"، ليليه ألبوم آخر بعنوان "نوار نيسان".• لم تكتف ريم بالغناء في المهرجانات المقامة داخل فلسطين، بل أقامت عدة حفلات غنائية في بلدان عربية مختلفة مثل سوريا وتونس ولبنان.• وبالتزامن مع ذلك، أطلقت ألبومين جديدين هما: "صرخة من القدس" عام 2010، و"أوبريت بكرا" عام 2012.وفي آخر كلماتها لأبنائها قالت ريم بنا: "بالأمس .. كنت أحاول تخفيف وطأة هذه المعاناة القاسية على أولادي ..فكان علي أن أخترع سيناريو ..فقلت ...لا تخافوا.. هذا الجسد كقميص رثّ.. لا يدوم ..حين أخلعه ..سأهرب خلسة من بين الورد المسجّى في الصندوق ..وأترك الجنازة "وخراريف العزاء" عن الطبخ وأوجاع المفاصل والزكام ... مراقبة الأخريات الداخلات .. والروائح المحتقنة ...وسأجري كغزالة إلى بيتي ...سأطهو وجبة عشاء طيبة ..سأرتب البيت وأشعل الشموع ...وأنتظر عودتكم في الشرفة كالعادة ..أجلس مع فنجان الميرمية ..أرقب مرج ابن عامر ..وأقول .. هذه الحياة جميلةوالموت كالتاريخ ..فصل مزيّف ..".