سونو، تلك المدينة التى ظهرت في عهد المصريين القدماء، والتى تعنى السوق، حيث كانت مركزًا تجاريًا للقوافل القادمة من وإلي النوبة، ومع مرور الوقت وبالأخص في العصر البطلمي، لقبت المدينة بإسم "سين"، وسماها النوبيون "يبا سوان"، حتى استقر بها الإسم الأخير في العصر الحديث بـ "أسوان".
بين أروقة هذه المدينة السمراء، ولد حلم المصريون في بناء سدٍ عملاق عرف باسم السد العالي، وانحصرت مهمة في حجب مياة الأمطار الغزيرة، للإنتفاع بها على مدار العام، خاصة في الأشهر الجفاف التى تتعرض لها مدن المحروسة، بالإضافة أيضًا إلى توليد الطاقة الكهربائية، التي ستعود بنفع كبير على الاقتصاد فيما بعد، لكن الفكرة ظلت في طي النسيان منذ نشأتها وحتى اندلاع ثورة 23 يوليو عام 1952، وفي ذكرى انتهاء العمل به، "تعالو بينا نحكى الحكاية".
من هنا كانت البداية.. وابتدا الشعب الحكاية.. كان كفاحنا بنار جراحنا يكتبه دم الضحايا.. وانتصرنا انتصرنا"
بعد نجاح ثورة يوليو بسنوات، بدأ الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، في النظر بعين الجد إلى الفكرة، فتم جمع دراسات وأبحاث علمية عدة، منها ما توصل إليه المهندسون الألمان، والذي لقى اتفاق مجمع ليكون الشكل النهائي للسد العالي، بحيث يكون من النوع الركامي، مزود بنواة صماء من الطفلة، وستارة رأسية قاطعة للمياه، ليصل منسوب قاع السد 85 مترًا، أما منسوب قمة السد فتبلغ 196 مترًا، وبلغ طول السد عند القمة 3830 مترًا، أما طول السد بالمجرى الرئيسى للنيل فبلغ 520 مترًا، وعرض قاعدة السد 980 مترًا، أما عن عرض السد عند القمة فيبلغ 40 مترًا، وأمام هذا الشكل النهائي وافق ناصر على إنشاء الحلم "السد العالي".
"راح على البنك اللى بيساعد ويدي، قاله حساب، رد قال ملكمشى عندي.. كانت الصرخة الأوية، في الميدان في اسكندرية، صرخة أطلقها جمال، احنا أممنا القناة"، الكلمات السابقة كانت تعبير من العندليب عبد الحليم حافظ، عن سناريو ما حدث، فالحكاية بإختصار سارت كما يلى، بعد موافقة ناصر، على بناء السد العالي، لم تكن خزانة الدولة تتحمل تكاليف الإنشاء، خاصة أن النفقات الأولى التى رصدتها الهيئة المُشكلة لتدشين السد، خصصت مبلغ أولي بقيمة 200 مليون دولار، فلم يجد جمال، حلًا أمامه سوى الإقتراض الخارجي سواء من صندوق النقد الدولي أو الدول العظمى، وبدأت مصر فعليًا في عرض المشروع على دول العالم، الذي لقى قبولًا كبيرًا خاصة من انجلترا وأمريكا، التى تقدمت كلًا منهن بعروض جزئية وصلت إلى 130 مليون دولار، لكن عرض الثنائي كان مرهونًا على موافقة البنك الدولي مسبقًا، لأنه سيتكفل بباقي النفقات التى وصلت جميعها إلى 200 مليون دولار آن ذاك.
أمام هذه العروض، أمر جمال عبد الناصر، الدكتور عبدالمنعم القيسوني، وزير المالية والتجارة، بالسفر إلى واشنطن، واجتمع الأول مع رئيس البنك الدولي يوجين بلاك، وممثلى الحكومة الأمريكية والبريطانية، وبعد مرور شهر واحد على الاجتماع أعلن البنك الدولي موافقته على تمويل السد العالي مناصفة مع إنجلترا وأمريكا، بأربعة شروط، جاء على رأسها أن تتعهد مصر بعدم إبرام أي اتفاقات مالية أو الحصول على أي قروض دون موافقة البنك الدولي، مع أحقية البنك الدولي في مراجعة ميزانية مصر، علاوة على تعهد مصر بتركيز تنميتها على مشروع السد العالي فقط وتخصيص ثلث دخلها لمدة عشر سنوات لهذا الغرض، فلم يكن أمام ناصر، إلا الرفض شعورًا لم أسماه آن ذاك بسياسة "لوى الدراع"
"ضربة كانت من معلم، خلى الاستعمار يسلم، والحصار الاقتصادي، برضه ماذلش بلادي، وانتصرنا"، ظل المشروع على الطاولة في الدفاتر المطواه، حتى حلول أواخر ديسمبر عام 1958، حينما وافق الإتحاد السوفيتي على تمويل السد العالي، وتم إقراض مصر مبلغ 400 مليون روبل، كدفعة أولى لتشيد السد، كضربة اعتبرها "السوفيت" في مقتل لخصومة الكبار في الشرق الأوسط، مع إمداد المشروع بخبراء روس، لتنفيذ تقنيات عالية الجودة، وفي 27 أغسطس عام 1960، وصلت الدفعة الثانية لتمويل بناء السد بقيمة 500 مليون روبل، لينجح "جمال" ومعه أحلام المصريين، المصحوبة بصوت العندليب "انتصرنا".