ورجعت (في مصر) الشتوية

(1)

مع آخر كام يوم تقريبًا، زارت مصر لسعة برد لا تخلو من عطسة سخيفة منذرة بدور البرد المعتاد، ولكنها رسمت جزء من ابتسامة محبي الشتاء على الخدود ومعها بدأت الأمهات المصرية من الآن تطبيق حالة الطوارئ في المنازل، بدايًة من استدعاء كتيبة البطاطين (من تحت السرير أو فوق الدولاب غالبًا)، وتخفيض سرعة المروحة بدلًا من خمسة إلى ثلاثة وأحيانًا إلى اثنين، والتغطية بالكوفرتات مؤقتًا قبل خروج اللحاف، وإعطاء الفرصة للبؤج المكتظة أسفل الدولاب بالانطلاق، البؤج التي تحوي بداخلها جيشًا من الكلاسين والكوفيات والجوانتيات والجواكت التي تشبه جواكت الحرامية في الأفلام الأمريكي القديمة، تشعر حين تلبسها بأنك لابد وأن تكون الآن على ظهر موتوسيكل، لحظة تبدأ من عندها ملاحظة اختفاء تيشرتات النص كم رويدًا رويدًا، حتى يتبقي منها القليل لارتدائه تحت اللبس الشتوي ليصبح هو جزءً منها، ويبدأ التنبه لضرورة تغطية قفص العصافير الموجود في البلكونه بقطعة قماش سميكة لحمايتهم من لطشات البرد. طوارئ لا تتوقف فقط عند طوارئ المنزل بل هي طوارئ عامة في الشارع بظهور البرتقال الأخضر وبداية تنظيف كل محل للتاندا التي تغطي مدخله، ويصل الأمر بالبعض بتلييس عتبة من الأسمنت أمام بيته يقضى على فرص مياه المطر بالدخول لمكانه، وتبدأ فيروز بغزو قائمة الساوند واحدة بواحدة حتى تملئها على آخر الشتاء، وتنقلب عربيات الجيلاتي والتمر هندي إلى عربيات بطاطا وحمص شام وتبدأ الأيادي تتحسس المساحات استعدادًا للمعركة اللذيذة.

(2)

سألت نفسي كتير، وبالتأكيد مارستش يوم على بر، هل الصيف أفضل أم الشتاء، وكانت الحيرة بين ميزة حرية الحركة في الصيف وجودة الحركة في الشتا، في الصيف يمكنك أن تسير في الشارع بلا خريطة ولا موعد للعودة وأن تذهب مثلًا خمسة مشاوير فقط لاحساسك بالحرية، لكن الشتاء الحركة فيه تكون بحساب ولكنها أكثر تأثيرًا، أغلب الزيجات في الصيف ولكن "الحب" في الشتاء، الصياعة في الصيف ولكن الدراسة (وصناعة المستقبل) في الشتاء، أعتقد أننا الصيف يعيش على ذكريات الشتاء وليس العكس.

(3)

كل تجهيزات الشتا (كوم) وتجهيزات المطبخ المصري للشتا (كوم آخر)، فأول ما يشاور الشتا عقله ويبدأ بالحضور تبدأ المحاربات في المطبخ بالمواجهة بشربة العدس والمحشي كرنب، كما لا يغفلن الزيادة في قرص الليمون على أغلب الوجبات، وخد عندك فدادين من الاستفندي التي لا تغيب عن المنزل وخصوصًا لأنه أسهل من البرتقال في التقشير والالتهام، وتقديم الغداء حوالي ثلاث مرات متتالية بحجة أن (الشتا بيجوٌع)، ومن هنا غالبًا جائت مقولة "الدفا عفا"، ولكني أعتقد أنها حجة للرغبة الدائمة من الأمهات لـ (تزغيط) كل أفراد المنزل.

(4)

سألت ثلاثة من أصدقائي من محبي الشتاء، لماذا تحب الشتا؟ ، أجابني الأول أن ثمة شئ في الشتاء يذكره بأغاني محمد منير الذي توقف عن سماعها منذ فترة طويلة، وأجابني الثاني أن الطين الذي يغرق أرض الشوارع في الشتاء يعتبر مغامرة يومية تذكره دائمًا أن لياقته الجسدية جيدة إلى حد ما، أما الثالث فقد قفلها زي الدومينو قائلًا : في الشتا تعرف تدفي نفسك، أما في الصيف تقدر تقولى إيه يبردك؟

يقول ديستوفيسكي : "الشتاء بارد على من ليس لديه ذكريات دافئة" ولو أن ديستوفيسكي كان قد عاش شتاءً واحدًا في مصر كان قد أيقن أن التفاصيل والذكريات لا تبدأ إلا حينما ترجع (في مصر) الشتوية.

ملحوظة: "ربما لا يمتلك البعض من الناس البطاطين والجواكت وبعض الأشياء التي سبق ذكرها في المقال.. ربما يكون اعتذاري الشخصي قليلًا عن هذا المشهد، ولكن أتمني أن يشارك جميع القراء بحملة (تدفئة المحتاج) التي تطلقها مؤسسات مصر الخيرية (الأورمان ومصر الخير وغيرها)، وأحسب هذا المقال أول قطعة تبرع لهذه الحملات"

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً
عاجل
عاجل
"متعملش كده تاني".. رسالة القاضي لإمام عاشور في جلسة قضية فرد الأمن