أجمع محللون وباحثون تونسيون، على أن الثورة التونسية منحت البلاد، بعد خمسة أعوام، العديد من المكاسب المرتبطة بالحريات العامة والتنظيم والاستقرار، والتي من أبرزها إطلاق حرية الرأي والتعبير، وعودة النشاط للمجتمع المدني، والتخلص من "الدولة البوليسية"، وكتابة دستور يجمع بين الحداثة والجذور التاريخية، إضافة لتحقيق التبادل السلمي للسلطة.
لكن يرى المحللون أنفسهم – نقلًا عن "الأناضول" - أن الأعوام الخمسة السابقة، شهدت خلالها الدولة التونسية تأرجحا وتذبذبا، وعدم وضوح في الرؤية السياسية الخارجية، فضلا عن التعثر في تحقيق التنمية للمواطنين.
ويقول الدّبلوماسي التونسي السابق، توفيق ونّاس، إن "محصلة 5 سنوات بعد الثورة التونسية فيها من المكاسب الإيجابية، والنقاط السلبية، أما ما هو إيجابي فيتمثل في تغيير نظام الحكم، وكتابة دستور للبلاد، وممارسة شبه ديمقراطية لمؤسسات الحكم، رغم وجود بعض آثار التسلط والمحسوبية والمحاصصة والفساد في مؤسسات الدولة ."
ويرى وناس، أن النقاط السلبية، التي شهدتها البلاد، تتمثل في أنها "تعيش بحالة من عدم الاستقرار من الناحية الأمنية، بسبب تفشي ظاهرة الإرهاب، وكذلك وجود تدهور بالحالة الاقتصاديّة بصفة سريعة، فضلا عن تضرر قطاع السياحة".
وإضافة إلى ذلك فإن، البلاد "تعيش في حالة من التذبذب في سياستها الخارجية، خاصّة في ظلّ غياب رؤية واضحة لمصلحة البلاد، وكل هذه الظّروف خلقت نوعا من فقدان الأمل لدى المواطن التُّونسي"، كما يقول الدبلوماسي السابق.
ولعل أخطاء السّياسية الخارجية التونسية، على حد قول وناس، برزت في أن مصالح تونس مع أوروبا لم تتضح بعد، فوضعية الشريك المتميز مع الاتحاد الأوروبي لم تتحقق، وذلك "ناتج عن القراءة الخاطئة للسياسة الخارجية"، حسب تعبيره.
ومن الأمور السلبية، التي يراها وناس، "عدم تحقيق الاستقرار، ووجود شعور بالخذلان لدى بعض الشباب، وتفشي البطالة".
ويعتقد، أنه من الضروري في المرحلة الحالية، "إعادة ثقافة العمل، والروح المدنية والوطنية إلى الشباب التونسييين، والمسؤوليين ليقوموا بواجبهم، حتى لا تعود الأمور إلى الوراء".
ويقول إن "على القائمين على السلطة أن يتحلوا بالنزاهة، وأن تكون لهم رؤية واضحة للمرحلة الرّاهنة، لأن ما يميزها هو غياب الاستراتيجية السياسيّة والاقتصادية، وكيفية تسيير الشّأن العام، وهو ضرب من الفوضى والارتجال، فالحكام يتصرفون وكأنهم حكام عابرون ومسؤولون عن تصريف أعمال، وليس بناء مستقبل للبلاد."
من جانبه، يقول الباحث في علم الاجتماع، ووزير الثقافة التونسي الأسبق، مهدي مبروك: إن "مرحلة ما بعد الثورة، عرفت تحولا ديمقراطيا عسيرا، فهناك عديد من المكاسب وعديد من الخيبات، أما المكاسب فيمكن أن نقول ربحنا مساحة واسعة من الحريات كحرية الإعلام، وحرية التعبير، وتمكن المجتمع المدني من النشاط أكثر".
ويرى مبروك أيضا، أن التونسيين "ربحوا في المرحلة اللاحقة للثورة، دستورا جمع بين الحداثة والتجذر في تاريخ هذه البلاد فضلا عن مؤسسات راسخة كالبرلمان، والهيئات الدستورية، إضافة إلى أن البلاد تتجه نحو ترسيخ استقلاليّة القضاء".
ولا ينفي الوزير الأسبق، "أن الخمس سنوات الماضية، "عرفت جملة من الإخفاقات منها عودة بعض وجوه النظام القديم، وهو ثمن لتوافقات وضعت البلاد بين خيارات أحلاها مر، فكان على القوى السياسية إما أن تختار بين إجهاض الثورة، أو أن تقبل بالتوافق".
وفيما يتعلق بالعلاقات الخارجية بعد الثورة، يقول مبروك: إن "الثّورات لا تكون عادة جاذبة لحضن إقليمي ودولي، ودائما ينظر إليها بالخوف والخشية والريبة، فالثورات تجد مناخا إقليميا متسلطا عليها ساعيا لإفشالها، كما أنه من الصعب أن تكون لأي دولة عاشت ظروف تونس علاقات خارجية جيدة مع محيطها."
وبخصوص الوضع الأمني، يضيف أنه "تصاعدت طيلة هذه المرحلة، العمليات الإرهابية وكأن هناك يد خفية تدير كل هذا، حتى يتحسر الشعب على النظام القديم الذي خلعته الثورة، وكأننا الآن خسرنا كل شيء، وأن الثورة هي التي ولّدت العنف".
ويرى أيضا، أنه خلال الأعوام الخمسة الماضية، "أخفقت تونس في تحقيق التنمية والتوازن، وتوفير فرص عمل للتونسيين".
ولكنه يستدرك، بالقول "رغم كل هذا المشهد الذّي فيه نقاط مضيئة وأخرى معتمة، تظل تونس استثناء بالنسبة لمحيطها العربي، فالمشاهد مختلفة تماما في سوريا، وليبيا، ومصر، واليمن، التي شهدت ثورات مماثلة، وذلك بفضل مجتمع مدني وإعلام حر لم يترك مجالا أمام عودة الدّولة البوليسية، تحت ذريعة مقاومة الإرهاب أو مقايضة الناس على حريتهم."
بدوره، يرى الباحث وأستاذ علم الاجتماع بالجامعة التونسية منصف وناس، أن "تاريخ 14 يناير/ كانون الثاني 2011، حمل معه إلى التونسيين كثيرا من الأمل ومن الرغبة في التغيير، ومعاودة البناء والوصول لمرحلة جديدة من تاريخ المجتمع التونسي".
ويقول وناس: "تولد عن الثورة بعض المكاسب لعل من أبرزها تكريس الحريات كحرية التعبير والاحتجاج والتنظُّم، فضلا عن التدرب التدريجي على ممارسة انتخابات حرّة ونزيهة وشفافة، مثل ما يشهد بذلك المراقبون الدوليون".
ويضيف: "مقابل هذه الايجابيات القليلة، هناك صعوبات كثيرة فعلى الرغم من مرور 5 سنوات من عمر هذه الانتفاضة لم تتحقق العدالة الانتقاليّة في البلاد وهناك صعوبات كبيرة في تحقيقها لتشعب المصالح وتناقض القراءات واختلافها من مرحلة لأخرى".
وعلى الصعيد الاقتصادي، يعتبر، وناس، أنه "ليس هناك شعور فعلي بتحقيق تنمية اقتصادية، وتوزيع عادل للثروات بين الفئات والجهات في المجتمع، فما يزال الفقر قائما، كما أنّ الفئات الهشة وغير المحظوظة اقتصاديا وتنمويا لم تتغير أوضاعها وازدادت معاناتها."
ويضيف الباحث التونسي، أنه "لم يحصل توافق بين القوى السياسية، فما تزال التجاذبات السياسية والأيديولوجية قائمة كما هي منذ 2011، فلم يلمس التونسيون تغيرا ملحوظا في أوضاعهم الاقتصاديّة والاجتماعيّة، ولا تحسنا في مردود التنمية وتوزيع الثروة، وبالتّالي مازال هناك شعور كبير بالظلم والضيم وعدم تحقق العدالة الاقتصاديّة والاجتماعيّة."
بالإضافة إلى ذلك، يعتبر ونّاس أن "الطبقة السياسية التونسية التي ظهرت بعد 2011، لم تمنح في الغالب علامات وإشارات قوية، لطمأنة الشعب التونسي على حاضره ومستقبله في مواجهة مشاكل التطرف والإرهاب ومقاومة الفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية، وبالتّالي تولد لدى التونسيين انطباع يتمثل في أنّ هذه الطبقة مشغولة بمصالحها الذاتية والحزبية والسياسية أكثر من انشغالها بالواقع الفعلي للتونسيين وتحسين أوضاعهم".
وفيما يتعلق بالإرهاب، يرى أن "سياسة الحكومة في محاربة التطرف، ليست قوية كفاية لتقضي عليه بالشكل المطلوب"، مشيرا إلى أن محاولات مواجهة الإرهاب ما تزال "غير ناجعة"، لذلك لا بد من سياسة جديدة تجمع توفير موارد المواجهة العسكرية والأمنية، وخلق جبهة داخلية داعمة، وكذلك مراجعة السياسة التربويّة والثقافية في تونس لتكون أداة متقدمة ومهمة في مواجهة التكفير والتشدد.
وعن السياسة الخارجيّة التونسية، يقول هذا الباحث، إنها "لم تتحل بالنجاعة الديبلوماسية خلال 5 سنوات بدليل أنّ دورها في الأزمة الليبية كان محدودا فالمفاوضات الليبية، التي امتدت على مدار أكثر من عام استضافتها دول مثل سويسرا وألمانيا والمغرب وإيطاليا، وقد كان من المفترض أن تكون تونس مبادرة في هذا المجال خاصة وأنها أكثر الدول معرفة بليبيا."
ويضيف "لم تكن لدينا سياسية خارجية قوية ومبنية على تحالفات قوية وفضلت تونس أن تبقى منزوية وأن لا تشارك بجدية في أزمات المنطقة".
وفي السياق ذاته، يقر الناشط السياسي التونسي، عياض اللومي، أن "أهداف الثّورة لم تتحقق.. فحتى المؤتمن عليها الرئيس الحالي(الباجي قايد السبسي) يقر بذلك، وخاصة إذا ما تعلّق الأمر بموضوع الكرامة، فإنّ المواطن لا يزال في حالة تهميش سيما وسط التهديدات الإرهابيّة، فلم يعد آمنا حتّى في بيته".
ويضيف اللومي، أن "من مؤشرات عدم تحقيق أهداف الثورة، ارتفاع عدد العاطلين عن العمل إلى نحو 800 ألف تونسي، وتراجع الاقتصاد وتقهقر ترتيب تونس بالنسبة إلى منتدى دافوس الاقتصادي، فيما يخص جاذبية الاستثمار، فهي تحتل الثلث الأخير من هذا التّرتيب".
ويقول إنّ "هناك انتكاسة في مسألة حرية التعبير، وهناك تقارير تتحدث عن وجود انتهاك وكبت لحرية الإعلام كما أنّ الهيئات الدّستوريّة، لم يتم سن التشريعات اللازمة لها ومن ذلك الهيئة التّعديلية للصحافة المستقلة، وهيئة الانتخابات وحقوق الإنسان، ومؤسسة حماية حقوق الإجيال، وكذلك المحكمة الدّستوريّة، والمجلس الأعلى للقضاء المستقل، وبالتالي عدنا إلى المربّع الأول قبل الثورة."