مما لا شك فيه، أن جميع الأثار بمختلف أنواعها، والعصور التي تنتمي إليها، لها مكانة كبرى، ولكن بالطبع تزيد أهميتها بمدى مشراكتها في أحداث تاريخية فاصلة، لاسيما وأن كان هذا البناء يمثل مسرح لأبرز حدث ديني وقومي بالنسبة لمجتمع.
"مصطبة المحمل".. هذا البناء العريق، الذي شهد على أبرز الأحداث الدينية والقومية، بالنسبة للمجتمع المصري، الذي اعتاد أن يقدم كسوة الكعبة المشرفة للحجاز كل عام، لينتهي به الحال لجدران متهالكة محترقة مازالت رائحة الحريق تلتصق بجدرانها، تحيطها القمامة والحشرات، وكانت اللجنة الدائمة بوزارة الأثار قد قامت بتسجيل مصطبة المحمل كآثر في يناير 2018.
اتجهت محررة "أهل مصر"، إلى مصطبة المحمل التي تقع أسفل سور "قلعة الجبل"، لمعاينة هذا البناء العريق، وكانت البداية من شارع صلاح الدين الأيوبي، هذا الشارع الطويل الذي يقع به مدرسة ابتدائية على الجانب الشمال، ومصطبة المحمل في الجانب اليمين، لنشاهد الكارثة التي حلت بمصطبة المحمل، التي لم يتبقى منها سوى جدران محترقة، ولكن الحجارة التي بنيت بها المصطبة توحى بعظمة هذا المكان وقيمته التاريخية.
قامت محررة "أهل مصر"، بمعاينة البناء الذي لم يتبقى منه سوى جدران عليها إعلانات لمرشحي مجلس الشعب، وعبارة "ثورة 25 يناير" وعبارة أخرى "المهندس محمد درويش" وأمام المصطبة نخلة محترقة تماما.
الواجهة محترقة بالكامل
وخلال الجولة حول البناء، تبين أن الواجهة احترقت بالكامل ولم يبقى سوى بقايا حوامل التكيفات في الأربع منافذ العليا، أعمدة خشبية محترقة خارجة من سقف المبني الذي وقع معظمه، كابلات كهربائية محترقة خارج منها مجموعة من الأسلاك المتفحمة، وبقايا سور لا يتعدى الـ50 سم، بجانبه عمود إنارة محترق ومجموعة من الصخور البالية ومأذنة متهدمة لا يبقى منها سوى القاعدة.
أما في الجانب الشمالي للمبنى، فيوجد براميل حديدية بها أحجار وأعمدة حديدية، ومجموعة من الأحجار الملقاة، ويتكون البناء من الداخل من غرفة كبيرة لم يتبقى منها سوي أجزاء من كرانيش السقف التي نقشت بطريقة على الطراز الحديث، من الواضح أنها كانت غرفة للإجتماعات في العصر الحديث، وغرفة أخرى متهدمة بالكامل ولا يوجد بها سقف، فيما تبين بقايا الحمام من خلال حنفية صغيرة محترقة وبقايا للسيراميك توضح أنها كانت حمام، وتوجد ثلاث غرف أخرى بدون أسقف والجدران متهدمة تماما، كما تحيط القمامة والعنكبوت والاحجار المتهدمة أرجاء المكان.
ومرت مصطبة المحمل أو "كشك الخديوي" بعدة مراحل عبر التاريخ من العصور الوسطى وحتى عصرنا الحالي، فما بين التكريم والتشريف ومواكب الاحتفال بخروج المحمل حاملا كسوة الكعبة، في موكب عسكري ضخم، لمقر للإتحاد الإشتراكي، ثم مقر للحزب الوطني، لينتهي به الحال لبناء محترق زالت كل أثاره بعد أن دمرت النيران كل شئ.
وبسؤال أحد سائقي الميكروباص الذين يمرون أمام مسطبة المحمل، فيقول غير مكترث أنه لم يعرف شئ عن هذا البناء سوى أنه مقر الحزب الوطني القديم، وأنه احترق خلال ثورة 25 يناير.
أما أحد أولياء الأمور أمام المدرسة الإبتدائية، فكان يظن أن هذا البناء مسجد وتم حرقه، فلم يعلم أن هذا البناء كان مصطبة خروج المحمل من مصر المحروسة للحجاز.
ويقول أحد العاملين بموقف أتوبيس هيئة النقل العام بجانب مصطبة المحمل، أن المبنى كان مقرا للإتحاد الإشتراكي ثم أصبح مبنى للحزب الوطني القديم.
وأضاف الرجل الستيني، أنه بالطبع كان يعلم أن هذه المصطبة كان يخرج منها المحمل بكسوة الكعبة من مصر إلى الحجاز، قائلا : "شوية عيال بيشربوا مخدرات ما يعرفوش قيمة التاريخ"، لافتا إلى أن الوزارة لم تسرع في إعادة ترميم المبنى وتركته فريسة للكلاب الضالة والقمامة والعنكبوت يظلل المكان.
ومن جانبه يقول الأستاذ أحمد جابر مدير منطقة الغورية، أن مصطبة المحمل واحدة ضمن العديد من الآثار المصرية التي تحتاج للترميم، موضحًا أن الوزارة سجلت المبنى كآثر في يناير الماضي.
وتابع "جابر" حديثه لـ"أهل مصر" أنا أجزم ان الوزارة واضعة مصطبة المحمة ضمن اولويتها، ولكن الميزانية هي التي تحكم الوضع، وبالطبع تأتي منشآت "قلعة الجبل" في مقدمة الآثار التي تسعى الوزارة لترميمها.
الخديوي إسماعيل والظاهر بيبرس
وأوضح دكتور محمد حمزة أستاذ الأثار بجامعة القاهرة، أن الخديوي إسماعيل قام ببناء كوشك المحمل في عام 1864، ويعرف بكشك الخديوي، أو مصطبة المحمل، موضحا أن هذا التقليد عرفته مصر منذ عهد الظاهر بيبرس، بل منذ عهد شجرة الدر، ولكن الظاهر بيبرس هو أول من أرسى الاحتفال بسفر المحمل من القاهرة إلى مكة، حيث كان يعرض كسوة الكعبة فى احتفالات شعبية فى شوارع القاهرة قبل سفرها بيوم، بعدها أصبح المحمل والاحتفال به تقليداً يحرص عليه ملوك مصر وشعبها كل سنة فى وقت خروجه لمكة المكرمة، وكذلك الاحتفال بعودته منها، وهى الاحتفالات التى كان يشارك فيها الجيش قبل الثورة، وحراس المحمل والمرافقون له، وكان يطلق على قائد مسيرة المحمل أمير الحج وكان غالبا من الباشوات والأمراء.
وكان يقع مصنع الكسوة المشرفة في حي "الخرنفش" أمام مسجد القاضي عبدالباسط كان يقام حفل رسمي، ثم تخرج الكسوة في احتفال بهيج وتخرج وراءها الجموع إلى ميدان الرميلة قرب القلعة(صلاح الدين) حاليا، وكان مكان هذا المشغل ورشة خميس العدس، كان قد أنشأها محمد على باشا لعمل آلات أصولية مثل السندانات والمخارط الحديد والقواديم والمناشير وأدوات الأنوال لصناعة غزل ونسيج الحرير والقطن.
وبعد الانتهاء من التصنيع يُعلَم الحاكم في مصر لبدء تجهيزات الخروج بالمحمل، وخلال مرحلة التصنيع كان يصل إلى مصر القادمين من شمال أفريقيا لأداء فريضة الحج، فكانوا يخرجون مع زفة المحمل برحلاتهم في موكب مهيب، وكان الحاكم يعين أمير الحج، وهو غالباً من الشرطة، وقد يعادلها حاليًا وزير الداخلية للإشراف على حماية الموكب.
أما دكتور جمال عبد الرحيم أستاذ الآثار بجامعة القاهرة، يقول كانت كسوة الكعبة تخرج كل عام في موكب المحمل المصري كهدية من مصر للأراضي الحجازية، من مصطبة المحمل، وكانت الوفود الزائرة لحضور الاحتفال تقيم في غرف هذا المبنى الصغير نسبيا، والذي يتكون من طابق أرضي وآخر علوي.
وأوضح "عبد الرحيم" في حديثه لـ"أهل مصر" أن مصر استمرت في إرسال موكب المحمل، حتى توقف هذا التقليد نهائيا عام 1962 في أيام جمال عبد الناصر، على إثر خلاف نشب مع آل سعود.
كسوة الكعبة
وتابع أستاذ الآثار، أن كسوة الكعبة ليست مجرد احتفال ديني، ولكنها تمثل قوة للسلطة السياسية للحاكم، والذي يمزج شرعيته العسكرية بالشرعية الدينية، باعتباره خادم الحرمين الشريفين، موضحا أن أول من تلقب بلقب خادم الحرمين الشريفين كان السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي (1138 - 1193)، وهذا اللقب محفور على قبة يوسف جنوب صحن قبة الصخرة في مدينة القدس.
واستكمل دكتور جمال حديثه، أن هذا اللقب ظل متداول بين حكام الأيوبيين ثم المماليك ثم العثمانين، مع استمرار خروج المحمل من مصر على الرغمن أن مقر الخلافة كان في اسطانبول، وظل هكذا حتى عهد أسرة محمد علي، والرئيس جمال عبد الناصر، ولكن الخلاف الذي حدث مع ل سعود وقتها منع على أثره إرسال المحمل بكسوة الكعبة المشرفة، وبالطبع تحول هذا المقر (مصطبة المحمل) إلى مقر للاتحاد الاشتراكي، ثم ورثه عنه الحزب الوطني الديمقراطي الذي كان يرأسه الرئيس السابق محمد حسني مبارك، ثم احترق المقر بالكامل في غضون ثورة 25 يناير 2011، انتقاما من الرئيس السابق وحزبه.