أتعجب دائمًا من حال الدنيا فهي لا تبقي أحدًا على حال، عندما كنت صغيرًا كنت أظن أنه ليس هناك نهاية للإنسان، كنت غير مسالم مع فكرة الموت، كنت جاهلًا بالحقيقة الأبدية الوحيدة في هذا الكون، ولكن أراد الله لهذا الجهل أن ينتهي عندما حكى لي جدي عن تفاصيل بنائه للمقبرة التي يرقد بها الآن، فعرفت أن الإنسان ما هو إلا عابر سبيل في هذه الدنيا التي إذا أحبت أحدًا قتلته وإذا عشقت أحدًا أهلكته، رحلة جدي في هذه الحياة بدأت في الخامس والعشرين من ديسمبر في العام 1937 أي قبل واحد وثمانين عامًا بالتمام والكمال، لم يكن يعرف وهو يصرخ بجوار أمه معلنًا مجيئه للدنيا أنها دار شقاء وكبد ولكنه عرف ذلك عندما تلقى أول صدمة في حياته التي أتت إليه مبكرًا وهو في سن السادسة من عمره عندما توفى والده وتركه وحيدًا يواجه أمواج الحياة، كان جدي وقتها يشق طريقه نحو التعليم ولكن ظروف الحياة حالت دون ذلك، لم يجد بُدًا إلا أن يخرج من التعليم خصوصًا أن والده رحل وترك له اثنين من الأخوة أصغر منه سنًا، سار جدي على «أشواك» الحياة ولم يعبأ بالظروف التي وضعته في هذا المأزق، كان يحكي لي صعوبات ما كان يعانيه في رحلته التي امتدت إلى ما يقرب من ثمانين عامًا وكنت أنظر إليها بتعجب وفخر، أتعجب من أنه كيف استطاع أن يواجه هذه الظروف رغم حداثة سنه ورغم أنه كان وحيدًا، لو كان طفلًا آخر في سنه لاستسلم للظروف التي أودت به إلى ذلك، وكنت أفخر بما حققه على مدار حياته كيف أنه استطاع أن ينحت في الصخر رغم أنه كان لا يملك مالًا ولكنه كان يملك إيمانا راسخا بالله وكان يملأ قلبه الصبر والتحمل على الشقاء، لم يكن متعلمًا ولكنه علمني الكثير ما جعلني أؤمن بأن العلم ليس بما تتلقاه في المدرسة فقط ولكن العلم لابد وأن تأخذه من أناس عانوا في هذه الحياة وصبروا على آلامها.
كان زاهدًا في الدنيا، حلم حياته أن يصلي في «السيدة زينب» أو يبيت ليلة بجوار «الحسين» أو يذهب لزيارة «النبي» مرات ومرات، كان يسير يتكأ على عصاته السوداء التي كانت تشبه عصا «موسى» ولكن لم يكن له فيها مآرب أخرى، كان يحب الحياة ولكنه لم ينسَ آخرته، صمم أن يلحقني بالأزهر ويحفظني القرآن وكان دائما يردد «لعل الله يجعله في ميزان حسناتي»، حتى وهو على فراش الموت تذكر ذلك وذكرني به، حفظت منه «آية الكرسي» قبل حتى أن أذهب إلى «الكتاب»، تعلمت كيف أختم الصلاة عندما كان يصطحبني إلى المسجد وأنا صغير.
لم يكن يتذكر دائما تاريخ زواجه ولا تاريخ مولد أحد أولاده، كان مثله مثل أي شخص عاش لغيره فلا يتذكر تاريخًا ولا مناسبة لأن الدنيا قد طغت على كثير من سعادته ولكنه كان يصنع لنفسه بهجة رغم الظروف، ورغم ذلك كله لم ينسَ أبدًا تاريخ مولده بل وكان مصرًا على أن يتذكره كل عام ويمازحني ضاحكًا «مش هتجبلي هدية»، تلك هي كانت آخر مرة تحدثنا فيها سويًا عن ذكرى ميلاده، ولكنه كان على موعد مع القدر.
«جدي» بالنسبة لي لم يصل أحد إلى مكانته ولن يصل، هو «القدوة» التي ستظل، وهو «البسمة» التي اختفت، وهو «الإصرار» الذي سأتحلى به، هو «الماضي» الذي أعيش على ذكره، وهو «الحاضر» الذي أعيشه، وهو «المستقبل» الذي سأصنعه، هو «الهواء» الذي أتنفس سيرته، وهو «الماء» الذي ارتوي بذكره عند شدة العطش.