أحياناً تراودنا أحلام وطموحات نعتقد أنها السبب الرئيسي للحياة بالنسبة لنا، لكن سرعان ما تصطدم هذه الأحلام بواقع أليم وظروف معيشية صعبة قد تحول دون الاستمرار فيها بالرغم من العناء الذي تكبدناه في اتخاذ الخطوة الأولى نحوها، هنا نشعر بأننا نقف في مفترق طريق، فإما أن نقتل هذه الأحلام ونتنازل عنها نهائيا ونعيش حياة بلا روح أو نحفظها في حيز معين من القلب ونواصل الحياة على أمل أن يأتي الوقت المناسب، وتدب الروح مرة أخرى في هذا القسم المتجلط من القلب.
وخلال رحلة الحياة يحتدم الصراع بداخلنا بين القلب المتجلط الذي يبحث عن دواء يشفيه، والعقل الثائر المشغول بالبحث عن سبيل لإعادة علاقة الود بينه وبين القلب من جهة، وواقع الحياة من جهة أخرى، حتى تأتي اللحظة الحاسمة التي يزول فيها هذا الصراع، ويصل كل من القلب والعقل لحل مشترك يلبي كافة احتياجاتهما، ليخرج الحلم من كبوته وتبدأ مرحلة أخرى في حياة الإنسان يصنع خلالها ملحمة من النجاح.
هذا ما حدث بالفعل مع حسناء رمضان، بنت قرية شبرا قاص، مركز السنطة بمحافظة الغربية، التي ألفت الرسم منذ نعومة أظافرها، وعكفت على تنمية موهبتها بنفسها معتمدة على مطالعتها لقصص الخيال العلمي والأكشن، فشبت بذلك وموهبة الرسم تجري في عروقها مجرى الدم، واجهتها العديد من الصعوبات والأزمات؛ مما دفعها للتوقف عن الرسم لمدة 10 سنوات، إلا أنها لم تستسلم للأمر الواقع وتجرأت على حلمها ، متخذة من تجارب أساتذتها شعاعًا تنير به مستقبلها، الذي كان سيخيم عليه الظلام لولا روح التحدي التي نبتت بداخلها، ونظرا لأن قصة "حسناء" تعد نموذجًا إيجابيًا واقعيًا بل ومفتاحًا لأي شخص انتصرت عليه الحياة؛ فعاش أسيرًا لها وضاعت أحلامه بين ثناياها، حتى يبحث عن نقطة البداية التي تنجيه من سيطرتها، لذا التقينا بهذه الفنانة المصرية المثابرة؛ لتحكي لنا عن تجربتها.
' أنا أرسم.. إذا أنا موجود ' بهذه الكلمات بدأت حسناء رمضان حديثها لـ"أهل مصر" مضيفة: "أنا بحب الرسم جدا من طفولتي، وبدونه أشعر وكأن ليس لي وجود، فهو يعادل الأكل والشرب بالنسبة لي، ولذلك كنت أتعامل مع الطباشير الملون في صغري كفرش الرسم، وحوائط المنزل كلوحات أو اسكتشات؛ فارسم عليها كل ما كان يجول في خاطري من ورود وعيون وأشجار، ليس هذا وفقط بل كنت أرسم ما أتذكره من الرسوم التي رأيتها بقصص الخيال العلمي والأكشن، التي كانت تجذبني بروعة ألوانها، وذلك بمكتبة مركز الشباب والرياضة بالسنطة، حيث تعمل والدتي".
وتابعت أن والدتها كانت تصطحبها لمقر عملها منذ أن كانت في عمر 6سنوات، وخلال فترة قصيرة لاحظت حبها للرسم؛ فحثتها على المشاركة في مسابقات الرسم، التي كانت تطلقها مديرية الشباب والرياضة، آنذاك بمراكز الشباب على مستوى المحافظة.
وقالت: "منذ ذلك الوقت بدأت رحلتي مع الرسم، وشاركت في جميع المسابقات الخاصة بالرسم في مركز شباب السنطة - الذي تتبعه قريتي شبرا قاص وحصلت على العديد من المراكز والجوائز، وما أن وصلت للمرحلة الثانوية حتى بدأت أرسم بالرصاص، ثم تطور الأمر بعد ذلك عندما التحقت بالجامعة"، موضحة أنها لم تلتحق بكلية الفنون الجميلة أو أي كلية أخرى خاصة بالرسم، بل التحقت بقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة طنطا، وذلك بسبب ارتفاع تنسيق الالتحاق بهذه الجامعات آنذاك، وكذلك معارضة والديها لفكرة الاغتراب.
وأضافت "حسناء"، أنها لم تستسلم للأمر الواقع بل التحقت بمركز الفنون التشكيلية بجامعة طنطا، وتابعت فيه فترة 4 سنوات جامعتها، واستطاعت خلالها أن توازن بين موهبتها ودراستها، لافتة إلى أنها استفادت وتعلمت كثيرًا من دراستها بهذا المركز، خاصة أنه كان ينظم ( 2 - 3 ) معارض سنويًا، مشيرة إلى أنها قد تمت خطبتها في السنة الأخيرة بالجامعة، ثم تزوجت بعد فترة وجيزة وأنجبت، مما جعلها تنحي موهبتها جانبًا وتحتفظ بلوحاتها الثمينة تحت مرتبة سريرها، وذلك طوال 10 سنوات لم تلمس يدها خلالها الفرشاة مرة واحدة.
وقالت إنه خلال 10 سنوات لم تفكر بنفسها أو موهبتها يوما، بل انشغلت بتربية أبنيها "أحمد و زياد"، وما أن أنجبت في المرة الثالثة التوأم "معاذ ومالك" حتى بدأ الحلم يستيقظ بداخلها من جديد، خاصة بعد أن أصبحت تسمع عبارة "حسناء أم العيال" من أقاربها وجيرانها، هنا بدأت تفكر وتتساءل عن موقعها في هذه الحياة، فهي نجحت كابنة وزوجة وأم، لكنها نسيت نفسها وسط كل هؤلاء، وأصبحت - على حد قولها - "سيدة ثمينة الوزن، مستنية المرض يجيلها، وتربي أولادها كأي سيدة طبيعية وتجوزهم"، لافتة إلى أنها لاتقلل بحديثها من أي ربة منزل، بل أرادت أن توقظ نفسها وتغير مسار حياتها قبل فوات الأوان، فزوجها وأبنائها لهم جانب مهم جدًا في حياتها، لكن في ذات الوقت هناك جانب آخر لا يجب أن تنساه وهو مستقبلها.
وتابعت: "منذ هذه اللحظة بدأت أفكر في تغيير نظام حياتي ومظهري بالكامل، هذا بالإضافة إلى البحث عن الخطوة الأولى التي يجب أن أخطوها لكي أعود من جديد وأرفع مستوى رسمي عن ذي قبل، فلقد نسيت ماتعلمته خلال السنوات الماضية، وفجأة وجدت إعلان عن معرض للفنون التشكيلية بدار الأوبرا المصرية، فقررت أن أشارك في هذا المعرض بإحدى اللوحات التجريدية القديمة، وبموافقة زوجي ودعمه لي شاركت في هذا المعرض، لكن لم ألقى أي إقبال على لوحتي، والتي كانت عبارة عن تكنيك ألوان فقط ولا تحمل أي رسالة، أما المعرض فكان يضم العديد من اللوحات الرائعة، والتي تفوق مستوى لوحتي ولا تقارن بها نهائيا".
وأضافت "حسناء"، أنها لم تيأس فهي لم تشارك في المعرض لتتباهى بلوحتها أو أن تبحث عن شخص يمدحها بل شاركت لتكتسب خبرة وتتحدى نفسها؛ لذا بدأت تحصل على دورات تدريبية وكورسات في الإظهار المعماري والديكور، وتطلع على مختلف الفنون الخاصة بالرسم من خلال الإنترنت لتكتسب مهارة أكبر، مشيرة إلى أن هناك العديد من الأشخاص قد دعموها لترتقي بمستواها الفني وتعود أفضل من الماضي، كان أهمهم الفنان "سيف جاويش"، حيث كان بمثابة الأب الروحي بالنسبة لها، وكان يقدم لها ما يسمى بالإفطار الفني الغني بتكنيك خلط الألوان على حد قولها من وقت لآخر، هذا بالإضافة إلى الفنان اليمني ردفان المحمدي، والفنان المصري محمد عبد الرحمن والذي كان صديقها في المشوار الفني منذ بداياتها.
وتابعت: "وبعد فترة من التدريب، قمت بإعداد لوحة في فن التصوير الذاتي، تعبر عن القضية الفلسطينية وتظهر طفلًا صغيرًا يبكي حاملا كوبًا مكسورًا، وأطلقت على هذه اللوحة اسم "الحرمان"، واستغرقت مني هذه اللوحة 3 أشهر، وبلغت تكلفتها حوالي ألف جنيه"، مضيفة أنها شاركت بهذه اللوحة في معرض فلسطين، الذي عقد بجامعة الدول العربية أواخر نوفمبر الماضي، بحضور الأمين العام لجامعة الدول العربية، والدكتور سعيد أبو علي رئيس قطاع فلسطين، ولفيف من السفراء، وبمشاركة 12 رسامًا على مستوى الوطن العربي، ولقد لقيت لوحتي استحسان الجميع وأثنى عليها عدد كبير من الحضور، وكرمت في هذا المعرض مع باقي الرسامين وحصلت عل شهادة تقدير و"بانفلت" يحمل اسمي وصورتي مع لوحتي".
أضافت حسناء، أن لوحة "الحرمان" كانت بمثابة الشعلة التي أضاءت حياتها من جديد، والتي جعلتها تعشق الرسم أكثر وأكثر، بل وتفكر في أن تستخدم الرسم في إضفاء بصمة ولو صغيرة تحمل اسمها وتصنع بها مستقبلها؛ فقررت أن تنشئ مدرسة لتعليم الرسم بنادي السنطة الرياضي، وذلك حتى يكون الرسم نشاط أساسي في النادي كأي لعبة أخرى موجودة به، لذا عرضت الفكرة على مجلس إدارة النادي.
وأوضحت أن مجلس الإدارة لم يمنحها الموافقة بسهولة، لأن الفكرة كانت غريبة بالنسبة لهم، لكن بعد فترة حصلت على موافقة النادي، وتم توقيع عقد بينهما يقضي بأن يخصص النادي لها مكانًا لإعطاء دروس الرسم، خلال فترة الصيف فقط، على أن يحصل على نصف الربح أو الاشتراك، والذي يقدر بـ 75 جنيهًا للطالب الواحد، مضيفة أنها بدأت بطفل واحد فقط، ثم زاد العدد تدريجيًا حتى وصل إلى 45 طالبًا تتراوح أعمارهم بين (5 -17) سنة.
ولفتت إلى أنها طالبت إدارة النادي عدة مرات بأن يخصص لها مكانًا معينًا كغرفة صغيرة مثلا للمدرسة، بدلا من الحديقة لكنه رفض معللاً ذلك بأن الميزانية لا تسمح.
وناشدت حسناء رمضان، اللواء مهندس هشام السعيد محافظ الغربية ومحمد إسماعيل وكيل وزارة الشباب والرياضة بالمحافظة وجميع الجهات المعنية بالشباب والرياضة، بتطبيق فكرة مدرسة تعليم الرسم على جميع مراكز شباب المحافظة، وعلى رأسها مركز الفنون باستاد طنطا الرياضي، مع تطوير الغرفة الخاصة بالمركز، وأن يستعينوا بمدربين متخصصين ومبدعين لتعليم الطلاب، وذلك لتصبح مراكز الشباب بمثابة "مراكز إبداع" تعمل طوال العام ولا يقتصر دورها على مجرد تلقي اللوحات في المسابقات فقط، لتفرز جيلا من الفنانين المبدعين في الرسم شأن الرياضات الأخرى.
تابعوا آخر أهل مصر على Google News
