ضجة كبيرة أثيرت -وما زالت- منذ الأمس 20 من فبراير 2019 موعد تنفيذ حكم الإعدام بحق تسعة من المدانين في جريمة اغتيال النائب العام السابق المستشار هشام بركات؛ كثير من المغيبين الذين تنطلي عليهم تقية جماعة الإخوان الإرهابية راحوا يستنكرون تنفيذ الحكم ضد هؤلاء الإرهابيين زاعمين أنهم أبرياء وأن اعترافاتهم انتزعت منهم تحت وطأة التعذيب.
المستنكرون وهم يتباكون على هؤلاء الإرهابيين؛ غاب عنهم قراءة التاريخ الذي تقول صفحاته الموثقة إن جماعة الإخوان الإرهابية احترفت صناعة الأكاذيب وتزييف الحقائق، وإن كل ما تبثه لجانهم الالكترونية على مواقع السوشيال ميديا الآن هو صورة كربونية من ماضيهم المزيف الذي يثبت أنهم يجيدون التلون وإخفاء أدلة تورطهم في القتل والدمار تحت عباءة «المظلومية».
وليقرأ هؤلاء المستنكرين المتعاطفين مع حفنة من الإرهابيين مذكرات الإخوانية «زينب الغزالي»، التي حملت عنوان: «أيام من حياتي» وصدرت عام 1978م، وفيها من المزاعم والأكاذيب ما يجعل الدموع تجف من المُقل، فهي تدعي في مذكراتها أنها تعرضت أثناء القبض عليها لتعذيب «يكفي نصف نساء مصر ويزيد»، وأنها جلدت مرات ومرات بلغت عدتها 500 مرة، وعلقت على أعمدة من خشب وحديد، وفتكت الكلاب المسعورة بجسدها.
وظل الإخوان يتاجرون بهذه المذكرات ويروجون لها كدليل على الظلم الذي يتعرضون له من الدولة المصرية ويستقطبون بهذه الفرية المئات من الشباب المغرر به، حتى افتضح أمرهم واكتشف الجميع أن مذكرات «زينب الغزالي» أكذوبة كتبها القيادي الإخواني يوسف ندا، وهو مضجع على أريكته في إيطاليا، وأن كل كلمة وردت في هذه المذكرات محض افتراء وخيال خطه «ندا»، وقد اعترف بهذا الأمر «أبو العلا ماضي» الإخواني المنشق عن الجماعة في منتصف تسعينيات القرن الماضي، في جلسة جمعته بالدكتور محمد السعيد إدريس، في مكتب الأخير قبل نحو عام من ثورة 25 يناير 2011. وسجل «إدريس» هذا الاعتراف في مقال نشر بصحيفة «الأهرام» في الأول من أبريل 2014 تحت عنوان: «الكذب والسياسة.. الإخوان نموذجًا».
وأكثر شيء راعني في هذه الضجة التي يدافع فيها البعض عن الإرهاب؛ أنها تؤكد أن العقل الجمعي المصري أصبح في خطر شديد، وأننا في حاجة ماسة إلى ثورة تجدد الفكر وفي مقدمته الفكر الديني؛ فالجمود الذي عانيناه طوال عقود مضت على المستوى الفكري -وبخاصة الديني- مكنَّ الإخوان من احتلال عقول بعضٍ من أبناء هذا الشعب.
أصبحنا في حاجة إلى ثورة تخلص عقول شبابنا وفتياتنا من تلك الأفكار المتطرفة التي يستند إليها الإرهاب، هذه الأفكار التي مازالت حتى هذه اللحظة معروضة على العيان في كتب التراث؛ بل إنها تُدرس للنشء الصغير على أنها دينٌ يتعبد به.
نحن الآن في معركة فاصلة، نواجه إرهابًا غاشمًا يستهدف حصد أرواحنا جميعًا ويرمو إلى تخريب وطننا، والمؤسف أن بعض من أبناء هذا الوطن يتعاطفون معه، والمُحزن أيضًا في هذا الأمر أن الإخوان ومن شابههم من الجماعات الإرهابية يشرعنون أعمالهم التخريبية مستندين على نصوص تراثية يرفض كثير من رجال المؤسسة الدينية تنقيحها.
من يقتلون خيرة أبناء هذا الوطن عن طريق التفجيرات والعمليات الإرهابية الخسيسة، يقنعون العامة أنهم يجاهدون في سبيل الله وحجتهم في هذا الإدعاء نصوص وفتاوى لابن تيمية، وغيره، والعجيب أن كل من ينادي بتنقيح هذه المفخخات الفكرية يُتهم بأنه عدو للإسلام وأنه يريد هدم الدين، وغير ذلك من التهم المُعلبة التي تنتظر الغيورين على هذا الوطن.
وفي رأيي أن السبيل الوحيد الذي سينقذنا من هذه الهجمات الإرهابية المتتالية هو صدور قرار جمهوري يقضي بتشكيل «نخبة إنقاذ الوطن»، وهو فريق نخبوي تكون مهمته الرئيسية تجديد الفكر وفي مقدمته الفكر الديني، لاستعادة العقل المصري الجمعي الذي اختطف ما بين «تطرف» و«تغييب» و«جهل»، على أن يتشكل هذا الفريق من العلماء ذوي الفكر الوسطي والمفكرين وعلماء الاجتماع والسياسية والمثقفين وكل الذين يمثلون قدوة للشباب في مختلف المجالات، علمية كانت أو رياضية أو فنية.. إلخ.
ويعقد هؤلاء عددًا من الاجتماعات خلال فترة زمنية لا تزيد عن الثلاثة أشهر، ثم يخرجوا لنا بوثيقة يُصدق عليها البرلمان المصري، ثم تعرض على رئيس الجمهورية ليعلنها رسميًا دستورًا فكريًا وثقافيًا للمرحلة المقبلة، وتطبع هذه الوثيقة في كتاب يُدرس لطلابنا في كافة المراحل الدراسية.
كما يتحتم على «نخبة إنقاذ الوطن» أن يعقدوا المئات من الندوات والنقاشات المجتمعية في مختلف مدن وقرى ونجوع مصر من أقصاها إلى أقصاها ليشرحوا للعامة ما تضمنته الوثيقة من بنود، ويكشفوا خلال هذه الندوات زيف الفكر المتطرف وأساليبه للتخفي. ولن تكون هذه الوثيقة النهاية؛ بل ستكون خطوة أولى في طريق استعادة العقل المصري، وتجفيف المنابع الفكرية للإرهاب.
وأعتقد أننا في هذا التوجه لن نبدأ من نقطة الصفر؛ فوثيقة تجديد الخطاب الديني التي أعدها الدكتور صلاح فضل في نهاية العام 2015، وهي وثيقة لتجديد الفكر في مختلف مجالاته وليست قاصرة على الفكر الديني وحده، وتصلح وبجدارة أن تكون نواة ينطلق من خلالها هذا الفريق لتحقيق الهدف المرجو؛ فقد اجتمع على هذه الوثيقة خيرة عقول مصر، ونوقشت بنودها في مقر مشيخة الأزهر الشريف، ولا نعرف حتى الآن ما السبب في عدم صدروها؟!
الواقع الذي نعيشه الآن، يؤكد أننا لم يُعد لدينا رفاهية الوقت التي نكتفي فيها بالمطالبات، بل نحن في حاجة ماسة لقرار جمهوري مُلزمٍ يُنقذنا من مفخخات كتب التراث التي تشرعن للإرهاب، وفارق كبير بين مجموعة مارقة تقتلنا باسم الدين، وبين عصابات -إذا ما جددنا الفكر ونقحنا التراث- لن تجد نصوصًا تراثية تستند إليها.. الفارق هنا، هو أن السواد الأعظم من المجتمع لن يكون متعاطفًا مع هؤلاء القتلة، ولن ينخدعوا بأكاذيبهم مرة أخرى.