للرد على هذا السؤال يجب على العبد أن يؤمن بأمرين:
الأول: أن الله تعالى خالق كل شيء، وأنه لا يقع في الكون شيء إلا بإرادته ومشيئته، وأنه علم ما سيكون، وكتب ذلك كله في كتاب، قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، كما صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم، وأنه سبحانه وتعالى عدل لا يظلم أحدا مثقال ذرة، لأنه غني عن خلقه، لا يحتاج إليهم، وهو المتفضل عليهم في جميع الأحوال، فكيف يظلمهم!.
وقد دل على هذا الأصل أدلة كثيرة من الكتاب والسنة ، فمن ذلك قوله تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) القمر/49، وقوله: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) الحديد/22، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قَالَ وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) رواه مسلم (2653).
والأمر الثاني: أن العبد له مشيئة واختيار، بها يفعل ويترك، ويؤمن ويكفر، ويطيع ويفجر، وعليها يحاسب ويجازى، مع أن الله سبحانه يعلم ما يكون عليه ، وما سيختاره ، وكيف سيكون مصيره ، لكن الله لم يجبره على فعل الشر ، ولا اختيار الكفر ، بل وضح له الطريق ، وأرسل له الرسل وأنزل له الكتب ، ودله على الصواب ، فمن ضل فإنما يضل على نفسه ، ومن هلك فإنما يهلك عليها .
قال تعالى : ( وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) الكهف/29 ، وقال : ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ) الإنسان/3، وقال : ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) الزلزلة/7، 8 ، وقال : ( وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) الأعراف/43 ، وقال : ( وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) السجدة/14 . فبين سبحانه أن الإنسان يؤمن ويعمل والصالحات ، باختياره ومشيئته ، فيدخل الجنة ، أو يكفر ويعمل السيئات باختياره ومشيئته، فيدخل النار.
وكل إنسان يعلم من نفسه ومن النظر إلى من حوله، أن أعمالنا - من خير وشر، وطاعة ومعصية – نفعلها باختيارنا، ولا نشعر بسلطة تجبرنا على فعلها، فأنت تستطيع أن تسب وتشتم وتكذب وتغتاب، كما تستطيع أن تحمد وتسبح وتستغفر وتصدق وتنصح، وتستطيع أن تمشي إلى أماكن اللهو والباطل والمنكر ، كما تستطيع أن تمشي إلى المساجد وأماكن الخير والطاعة، وهكذا يستطيع الإنسان أن يضرب بيده، ويسرق ويزوّر ويخون، ويستطيع أن يساعد المحتاج، ويبذل الخير، ويقدم المعروف بيده. وكل إنسان يؤدي شيئا من هذه الأعمال، لا يشعر بالجبر ولا بالقهر بل يفعلها باختياره وإرادته، ومن ثم فإنه سيحاسب عليها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر .
وما كتبه الله تعالى وقدره، أمر لا يعلم به العبد ، ولا يصح له أن يعتمد عليه، أو يحتج به ، كما لا يصح أن يعترض على ربه، لم جعلت هذا في الأشقياء، وذاك في السعداء، فإن الله لم يظلم هذا الشقي، بل أعطاه المهلة والقدرة والاختيار، وأرسل له الرسل وأنزل معهم الكتب، وذكّره وأنذره بأنواع من المذكّرات ، كالمصائب والابتلاءات، ليتوب إليه، ويقبل عليه، فإذا اختار طريق الغواية، وسلك سبيل المجرمين، فلن يضر إلا نفسه، وهو من أهلك نفسه، كما قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) الشمس/9، 10.
وقال: (وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) آل عمران/117
وقال: (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) التوبة/70.
والحاصل أن الإيمان بأن الله تعالى هو الخالق، الذي قدر الأشياء وكتبها، وميز السعداء من الأشقياء، لا يعني أن الله جبر عباده على الطاعة أو المعصية، بل أعطاهم القدرة والإرادة والاختيار، فبها يفعلون، وعليها يحاسبون، وما ربك بظلام للعبيد.