أمام شرطة الشغب المدججة، تربعت فتاة في جلستها على الرصيف مرتدية سترة واقية من الرصاص، وبدأت في قراءة الدستور الروسي من كتاب في يدها.
وخلف ذلك المشهد، كانت هناك مظاهرة تنادي بانتخابات شفافة في موسكو، أصيب فيها العديد من المتظاهرين بجروح.
وفي غضون دقائق كانت الصورة قد انتشرت بقوة على مواقع التواصل الاجتماعي، وباتت أولجا ميسيك ذات السبعة عشر ربيعا رمزا للحركة المؤيدة للديمقراطية في روسيا.
اقرأ أيضاً: روسيا تستدعي مستشار السفارة الأمريكية في موسكو
وقارن البعض بين هذه الصورة وصورة "رجل الدبابات" الشهيرة في ساحة تيانانمن في العاصمة الصينية بكين، الذي وقف في وجه الدبابات عام 1989، وحازت صورته شهرة واسعة.
وقالت أولجا، وفقاً لهيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي: "الأوضاع في روسيا في الوقت الراهن شديدة الاضطراب".
وأضافت "السلطات تفزع لدى رؤية متظاهرين سلميين وتستدعي لملاحقتهم تعزيزات عسكرية من مختلف أنحاء البلاد. لقد تغيرت عقلية الناس، كما أرى".
وتشهد العاصمة موسكو في عطلات نهاية الأسبوع تظاهرات منتظمة احتجاجا على عدم أهلية المرشحين المستقلين في انتخابات سبتمبر لعضوية مجلس المدينة.
وتقول السلطات، الموالية للرئيس فلاديمير بوتين، إن مرشحي المعارضة عجزوا عن تجميع ما يكفي من التوقيعات اللازمة للتسجيل في سباق الانتخابات.
أما أولجا - التي تتطلع للالتحاق بجامعة موسكو لدراسة الصحافة في سبتمبر- فتقول إن احتجاجها ليس مقتصرا على الانتخابات المقبلة؛ إنما هو لتسليط الضوء على الانحراف عن الدستور الذي وضُع في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفييتي، والذي يثمّن حقوق الإنسان في الشعب الروسي.
وتقول أولجا إنها لا تناصر حزبا سياسيا بعينه: "أتبنى اتجاها محايدا إزاء ألكسي نافالني وقادة معارضة آخرين، لكنني أدعم محاولاتهم".
احتجاجات التقاعد
وُلدت أولجا ميسيك ونشأت في إحدى ضواحي موسكو. وكان ترتيبها متوسطا بين إخوتها، وأحبت القراءة ولا سيما للكُتاب الذين يتناولون المستقبل الملبد بالغيوم والأنظمة الاستبدادية من أمثال جورج أورويل وألدوس هكسلي.
وتفوقت أولجا في الدراسة، واعتادت الحصول على درجات عالية، وأخذت تهتم بالشأن العام وقضايا الساعة، غير أن اهتمامها بالسياسة شهد ازديادا منذ الخريف الماضي.
وكانت أولجا في السادسة عشرة عندما شاهدت تظاهرات على وسائل التواصل الاجتماعي احتجاجا على مقترحات برفع سن التقاعد من 55 إلى 60 للسيدات ومن 60 إلى 65 للرجال. ووجدت أولجا في نفسها حافزا للانضمام إلى المتظاهرين.
"لا يتعلق الأمر باقترابي من سن التقاعد من عدمه، لكنني رأيت مطالبهم عادلة. وكان استيائي من السياسيين لأن الرئيس بوتين نفسه كان قد وعد بعدم رفع سن التقاعد، ثم وقّع على مشروع القانون ليصير قانونا في أكتوبر عام 2018".
اتخاذ موقف
في السابع والعشرين من يوليو الماضي وقفت أولجا بين الآلاف في تظاهرة غير مصرّح بها في موسكو احتجاجا على التضييق على نشطاء المعارضة في انتخابات الدوما. وكان العديد من قادة المعارضة البارزين قد اعتُقلوا قبل خروج التظاهرة.
وجلست متربعة على الأرض ومن ورائها عناصر الشرطة المدججة بالعصيان، وسحبت أولجا نسخة من دستور روسيا الذي أُقرّ عام 1993 وأخذت تقرأ منه.
تقول أولجا: "قرأت عليهم أربع فقرات. أولاها تتحدث عن الحق في التظاهر السلمي، والثانية تتحدث عن حق كل شخص في المشاركة في الانتخابات، والثالثة عن حق الجميع في حرية التعبير، والرابعة عن أهمية إرادة الشعب وقوته في نهضة البلاد".
وحظيت صور أولجا في المظاهرة بآلاف المشاركات على وسائل التواصل الاجتماعي.
غادرت أولجا المشهد بعد القراءة، لكنها تعرضت للاعتقال وهي في طريقها لمحطة مترو الأنفاق.
وباتت أولجا بين أكثر من ألف متظاهر محتجز نتيجة لتظاهرة السابع والعشرين من يوليو. وتعرضت أولجا للاحتجاز أربع مرات خلال الأشهر الثلاثة الماضية. وتقول إنها لم تخرج عن السلمية في أي من مشاركاتها في التظاهرات.
ولم تتلق أولجا معاملة سيئة من الشرطة، لكنها تقول إنهم أنكروا عليها زيارة الطبيب عندما قالت إنها تشعر بالمرض. وقد أفرجوا عنها بعد اثنتي عشرة ساعة بغرامة قدرها 305 دولارات لمشاركتها في تظاهرة غير مرخص بها.
'أنا الاستثناء'
تقول أولجا إنها تختلف عن الصورة النمطية للشابات في بلادها. "قليلات بين الشابات الروسيات تحرّكهن السياسة - فقط مَن تريد منهن بحق دخول عالم الصحافة. إنني الاستثناء ولست القاعدة".
ولا تخشى أولجا من مغبة صراحة موقفها السياسي، لكن ما تخشاه يتعلق بكونها لم تزل دون الثامنة عشرة من عمرها، ومن ثم فهي تعتمد على دعم أبويها.
وقد زار القائمون على قطاع الخدمات الاجتماعية أبويها لمناقشتهما في مسألة مشاركتها في الاحتجاجات. وبينما يثير ذلك عصبية والديها، تقول أولجا إن ذلك لن يثنيها عن المشاركة في التظاهرات والمسيرات.
وتؤكد أولجا أن توثيق المشهد السياسي في بلادها وتوثيق شهادتها عليه هو مستقبلها.