في الوقت الذي يرى المحتجون في لبنان أن استقالة رئيس الوزراء سعد الحريري، والتي تقدم بها إلى رئيس البلاد ميشال عون في وقت سابق مساء اليوم، تمثل فرصة للتخلص من النظام الطائفي في البلاد والانتقال إلى الحكم المدني، إلا أن تقارير صحفية ذكرت أنها قد تؤدي إلى تعميق الاضطرابات التي شهدتها البلاد مؤخرًا وتُفاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد التي تشهد احتجاجات في جميع أنحائها منذ ما يقارب الأسبوعين.
جاء قرار الحريري بعد عدة ساعات من اجتياح مئات العناصر الموالون لحزب الله وحركة أمل، لمواقع الاحتجاج وسط بيروت، وقاموا بإشعال النيران وتمزيق الخيام التي أقامها المتظاهرون، الذين طالبوا طوال الـ 13 يومًا الماضية بإصلاح حكومي ووضع حد للفساد المتفشي.
وهتف المئات من الرجال الذين كانوا يحملون العصي "الشيعة الشيعة"، وأطلقوا شعارات مؤيدة لحزب الله وحركة أمل، وهو حزب سياسي لبناني آخر، وخرج هؤلاء لمنع إغلاق الطرق ومهاجمة المتظاهرين. فيما أطلقت الشرطة العشرات من قنابل الغاز المسيل للدموع لتفريق الحشود.
وتم نشر الجيش في شوارع وسط بيروت اليوم الثلاثاء، وقام العديد من المتظاهرين المناهضين للحكومة بتنظيف ساحة الاحتجاج. وفي وقت سابق، حاولت المتظاهرات تشكيل سلسلة بشرية لفصل المتظاهرين عن المقتحمين.
ولمدة تقل عن عامين، قاد الحريري ثلاث حكومات وحدة وطنية، والتي شملت بعض خصومه السياسيين. وفي الأشهر الأخيرة، شهدت البلاد تدهورًا اقتصاديًا سريعًا وتضخم الديون وارتفاع الأسعار.
وفي 17 أكتوبر الجاري، اقترحت الحكومة فرض ضريبة على مكالمات تطبيق المراسلات الشهير "واتسآب"، إلى جانب تدابير تقشفية أخرى، مما أثار احتجاجات على مستوى البلاد.
وخضع لبنان لظروف قاسية منذ بدء الاحتجاجات؛ فتم إغلاق البنوك والمدارس لمدة 12 يومًا، بينما قام المتظاهرون بإغلاق الطرق الرئيسية في جميع أنحاء هذه الدولة الصغيرة الواقعة شرق البحر المتوسط.
وقال الحريري في خطاب الاستقالة "لا يمكنني إخفاء ذلك عنكم، لقد وصلت إلى طريق مسدود"، مضيفاً أنه "بالنسبة إلى جميع السياسيين، فإن مسؤوليتنا اليوم هي كيفية حماية لبنان والنهوض بالاقتصاد. واليوم، هناك فرصة ويجب ألا نضيعها".
ردود فعل الشارع
بدورهم، قابل عشرات المحتجين، الذين خرجوا بمئات الآلاف إلى الشوارع للاحتجاج على فساد الحكومة وسط بيروت، نبأ الاستقالة بالاحتفال الحذر.
وقال علي ديراني، أحد المتظاهرين، 33 عامًا، لصحيفة "الجارديان" البريطانية: "أعرف بالتأكيد أن الهدف الرئيسي هو قمة النظام، ولا أتوقع تأثير الدومينو؛ ما أتوقعه هو أن الحريري مستهلك للنظام الذي نحاول الإطاحة به. وما يجب على الناس التركيز عليه الآن هو أننا بحاجة إلى إيجاد بديل. لدينا مشكلة متأصلة في نظام صنع القرار والعلاقة بين المواطن والدولة".
من جانبه، قال كميل أبو سليمان، الذي استقال من منصبه كوزير للعمل في وقت سابق من هذا الشهر: "على الرغم من أنها جاءت متأخرة، إلا أننا نرحب باستقالته؛ لأن الشعب اللبناني فقد الثقة بوضوح في هذه الحكومة".
وقالت روز، 26 سنة، التي كانت وسط المحتجين في بيروت، عندما سمعت أن الحريري قد رحل: "نريد فقط أن نقول أن هذا هو الأول من بين الكثيرين"، مضيفة "نحن في انتظار الآخرين لإظهار بعض الكرامة، لكنني أشك في ذلك".
استحالة انتعاش اقتصادي دون إصلاح سياسي حقيقي
من جهته، قال ألبرت لطيف، وهو مصرفي استثماري كبير في شركة ليفانت بارتنرز للاستشارات، لـ"الجارديان": "إن الثقة في الاقتصاد قد اختفت، مما يجعل الانتعاش مستحيلاً دون إصلاح سياسي حقيقي. يعتمد لبنان اعتمادًا كبيرًا على المساعدات الأجنبية والأموال التي يتم إرسالها إلى الوطن من قبل المغتربين. وفي وقت سابق من هذا العام، تعهدت فرنسا بمبلغ يصل إلى 11 مليار دولار في مقابل إجراء إصلاحات هيكلية، والتي كانت في قلب الفساد المتأصل".
وأضاف: "ومع ذلك، فإن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، حجب الدفع حتى الآن لأن الطبقة السياسية كانت مترددة في إجراء تغييرات".
وتابع: "لقد وصلنا الآن إلى مرحلة لا يستطيع فيها ماكرون إرسال الأموال إلى الحريري أو أي شخص آخر، لأن نوابه سيقولون بحق إن نصف السكان في الشوارع يقولون إن الحكومة فاسدة"، مضيفا أن "الأشياء لا يمكن أن تعود إلى ما كانت عليه، فهذه نقطة تحول".
واستطرد: "الناس يشعرون أنه لا يوجد شيء نخسره، وهناك الآن معارضة واسعة النطاق للطائفية السياسية وهذا تغيير حقيقي اعتقد كثيرون أنهم لن يروه".
ازدادت الأحاديث في الأيام الأخيرة عن استقالة الحريري وحكومته التي تضم خصوماً مثل حزب الله، وهو التنظيم السياسي اللبناني المدعوم من إيران؛ وقال حسن نصر الله زعيم حزب الله، الأسبوع الماضي، إن الاحتجاجات جزء من مؤامرة دولية تهدف إلى الإطاحة بالحزب.
الفراغ السياسي والأزمة الاقتصادية
الفراغات السياسية ليست غريبة على لبنان؛ حيث انخرط في أزمات متعددة على مر السنين بين الحريري المدعوم من السعودية ضد حزب الله المدعوم من إيران. فيما وفرت حكومة الوحدة الوطنية التي شكلها الحريري، والتي تم تشكيلها لأول مرة في عام 2016، سنوات من الاستقرار، حين وضع الخصمان خلافاتهما جانبا.
أدت عقود من سوء الإدارة الحكومية والفساد الواسع النطاق إلى عرقلة الموارد المالية في لبنان، مما زاد من الضغط على العملة وتسبب في تضخم الديون؛ حيث يعاني لبنان من أعلى نسبة ديون في العالم إلى الناتج المحلي الإجمالي، وحوالي ثلث السكان يعيشون تحت خط الفقر، وفقا للبنك الدولي.
ووفقاً لـ"الجارديان"، فقد تؤدي استقالة الحريري إلى تعميق الاضطرابات الأخيرة وتفاقم الأزمة الاقتصادية. لكن المحتجين يقولون إنها تمثل أيضًا فرصة للتخلص من النظام الطائفي في البلاد والانتقال إلى الحكم المدني.
وقال كريم مقدسي، أستاذ مساعد في السياسة الدولية بالجامعة الأمريكية في بيروت: "هناك الكثير من المجهولين، لقد انتقلنا من مرحلة الاحتفال حيث كان الناس يجتمعون معًا ويظهرون تضامنًا في مكان لا نعرف فيه ما سيحدث"، مضيفاً أن "هناك انقسام رسمي في الشارع الآن".
بدوره، عارض حزب الله استقالة الحكومة، وحذر نصر الله من أنها قد تقود البلاد "إلى الهاوية".
رئيس وزراء لثلاث مرات
كان الحريري شخصية بارزة في المشهد السياسي المنقسم بشدة في البلاد منذ اغتيال والده، رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، في فبراير 2005. وبرز كزعيم للطائفة السنية في البلاد، وأصبح غارقًا في المعارك السياسية مع حزب الله وحلفائه، وكانت ولايته مليئة بالعنف المتقطع.
اقرأ أيضاً: بين مؤيد ومعارض.. أهم ردود الأفعال على استقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري
وفي عام 2011، أطاح تحالف حزب الله، الذي يتكون من حلفاء مسيحيين وشيعيين، بحكومة الحريري أثناء زيارته لواشنطن العاصمة. وفي عام 2016، أدى التقارب بين الجانبين إلى تشكيل حكومة الوحدة الوطنية تحت قيادة الحريري.
اقرأ أيضاً: لحظة تقديم الحريري استقالته للرئيس اللبناني ميشال عون (فيديو)
وفي نوفمبر 2017، أعلن الحريري استقالته أثناء تواجده في العاصمة السعودية الرياض، متجاهلا كل من أنصاره وخصومه. فيما اتهمت عدة شخصيات، من بينهم زعيم حزب الله، السعودية باحتجاز رئيس الوزراء وإجباره على الاستقالة. ولكن بعد أسابيع، سحب الحريري استقالته لدى عودته إلى لبنان.
اقرأ أيضاً: أول رد فعل لمتظاهري لبنان عقب استقالة رئيس الوزراء
ولكن حتى إذا كانت استقالة الحريري تشير إلى عودة محتملة إلى الخلافات القديمة، فإنها تمثل أيضًا خطوة للأمام للمتظاهرين في لبنان.
اقرأ أيضاً: أول تعليق للجامعة العربية على استقالة رئيس الوزراء اللبناني
واختتم مقدسي "استقالة الحكومة ستعتبر من قبل المتظاهرين انتصارًا كبيرًا. ولا أعتقد أنه ينبغي التقليل من أهمية ذلك"، مضيفا أن "هناك انتصار من جهة ومشكلة أمنية محتملة من ناحية أخرى".