رواية "سراب" للإيطالي أنطونيو تابوكي تناقش واقعية العالم ومعنى الإنسان

كتب : إ.ن

يجول الكاتب الإيطالي ”أنطونيو تابوكي“ في فراغ العالم، ليبحث عن ذات الإنسان، من خلال جثة عالقة، ويصنع لغزا سرديا مشوقا، في روايته ”سراب“، الصادرة عن دار الساقي للنشر والتوزيع 2017، وبترجمة من نبيل رضا المهايني.

وتتمركز أحداث الرواية حول جثة مجهولة الهوية، تصل المشرحة، دون أي تفاصيل حول الجريمة، لكن ”سبينو“ العامل في المشرحة، يتحرك ويتنقل بين أماكن مختلفة لمعرفة الحقيقة.

وينطلق ”سبينو“ بحثا عن حل لغز ليس له، وبما يشبه المتاهة، يتنقل بين الموانئ والمقابر والمكاتب الصحفية، والبيوت، حتى يكتشف سر ذلك الرجل، فقد كان ذلك يعني له اكتشاف نفسه، ومعرفة حجم الإنسانية في ذاته والآخرين، لم يمسك ”سبينو“ بالحقيقة، لكنه وصل إلى خيط رفيع جدا يربطه بالعالم للأبد.

ويسرد تابوكي أحداثه بشكل تفصيلي حتى كما لو أنه يصف الغبار المتطاير في المشهد، فلا يترك شاردة ولا واردة إلا ويضعها أمام النظر، من خلال كلماته، لربما هي ثيمة مكملة لخطة بطله سبينو، الذي يسعى إلى حل لغز لا يعني شيئا لأحد، فيكون عليه التدقيق في كل الجزئيات، مهما كانت غامضة، ومهما كانت صغيرة، فقد تعطيه ملمحًا، أو حتى رسالة، تفيده في رحلة بحثه.

وهو ما كتب عنه في حوار سبينو مع النورس في المقبرة، حينما لاحظ أنه يحوم حوله، فأصابته منه ريبة، وبدأ يحاوره: ”ماذا تريد مني؟ من أرسلك، لقد كنت تتجسّس عليّ حتى في المرفأ!“، وساق تابوكي الحدث الروائي إلى أن هذا النورس جاء ليعطي سبينو لمحة تساعده في طريقه، وأظهر له رسالة قديمة مترجمة من اللاتينية، مكتوبة على شاهد قبر مفادها: ”يموت جسد الإنسان، لكن الفضيلة لا تموت“.

خيوط اللغز داخلك

ويبعث تابوكي في القارئ حيرة اللغز، الذي ابتدعه، عبر حبل من الأفكار السابحة في الهواء، يلتقط منها عبر الصدفة أدلة تنقلنا معه لمعرفة مخرج المتاهة.

لكنه لم يكن هدفه الأساسي حل اللغز، بقدر ما كان يريد للإنسان أن يبحث عن نفسه، فرحلة السير مع خيوط اللغز الوهمية، كانت ترفعه، وتسقط من حوله، فيتساءل:“ من أنت بالنسبة لنفسك؟ هل تعلم إذا قررت يومًا أن تعرف هذا، فإن عليك أن تبحث عن نفسك هنا وهناك، وأن تعيد بناء نفسك، وأن تفتش في الأدراج القديمة، وأن تستعيد شهادات ناس آخرين، وتبحث عن بصمات ضائعة في كل مكان؟ كل شيء مظلم قاتم، ولابد ان تلمس الطريق“.

ويطرق الكاتب بذلك النسيج من المعاني بوابة الإنسان، الذي يعمل كآلة من أجل شهواته، والمال فقط، فلقد مر على أماكن عدة خلال رحلته، وأراد أن يوصل للقارئ مدى واقعية العالم، واقعية جافة تجرح المرء إن لامسها.

فبينما هو في غرفة صديقه الصحفي يناقشه حول معطيات الكشف عن القاتل، تتوارد أحداث العالم، من عبور الجنود للحدود، أو توقيع اتفاقيات، ويضج المكتب بأصواتهم، ليستخلص بعد ذلك، أن الميت لا يعني شيئًا لأحدهم.

رتابة الانتظار

ويعطي بقاء السر الغامض، حول الجثة، للرواية صفة تشويقية، ومساحة واسعة من التفكير، على الرغم من كثرة التوصيفات التي يضعها تابوكي كمقدمة للحوار حول رحلته الأهم، وهي الكشف عن السر، لكنه كما لو أنه أراد أن يكرر ما تفعله الحياة مع الإنسان، فوضع في خطة سرده ما يشبه الرتابة في الانتظار.

مقياس الموت

ولا يبدو تابوكي ممن ينكر هدفية الموت، أو يستاء من حضوره، بل أنه التقط له حدودًا يمشي عليها، حين كتب: ”إن مقياس الموت الحقيقي، هو أنه حتمي بطيء“.

وقد كان سبينو يمتلك فلسفة أخلاقية، وهو يمضي بنصف اسم سبينوزا، الفيلسوف الكبير، وهو ما نفاه تابوكي في آخر العمل، أن يكون سبينو نسخة عن الفيلسوف سبينوزا.

رقصة تانغو

وأن الفلسفة الأخلاقية، التي عمل عليها سبينو كانت من أجل إنسان غير معطل الأحاسيس، بأن يشعر المرء بالآخر الذي تؤلمه مفاصله، كأنه هو، وأراد للعالم أن يكون أرضًا للرقص، وحينما يصبح قلب المرء زهرة تتمايل، سيرى كل فرد فينا الناس من حوله، كلهم على حركة واحدة لرقصة تانجو بطيئة.

روابط

ويرفض تابوكي، أن تعيش الحقيقة في الظل، فلا يبقى السرّ مختبئًا تحت عريشة! فلابد لكل الأمور أن تتكشف، كما يريد النظام الكوني، والأمور تمضي في هذا العالم كما يجب لها أن تكون فيكتب:“ أفكر أن هناك نظامًا يتحكم بالأشياء، وأنه لا شيء يحدث بالصدفة“.

وتبدو رسالة تابوكي للمرء من خلال سرده هذا، هو استمرار البحث، عن ماذا؟ عن الروابط بين الأشياء، عن سبب اجتماع شيئين في العالم، أو تفرقهما، عن قوة الجذب، وشساعة التنافر، فيكتب :“المشكلة هي أننا لا نعرف الروابط بين الأشياء، وهنا شعرت بحجم الغرور الموجود فينا، وبالطريقة المبتذلة التي نربط بها بين الأشياء، التي تحيط بنا“. هو يريد القول أن العالم مكرر، لا يتم تجديده، لأن الإنسان يبتذل ذاته، وتصرفاته، ولا يعمل على سرد جديد، ذاتي، للأحداث من حوله.

إنها قصة ميت، وليس حيًا، بمعنى أنه لن يرجع ليعاتب أو ينتقم، لكن عامل المشرحة سبينو، أراد أن تستقر جثته في ميتة واحدة، فيقول: ”لا يمكن ترك الناس يموتون في العدم، هذا يعني كما لو أن المرء مات مرتين“.

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً