"العدودة".. بكائية تنشدها سيدات الأقصر في المآتم.. عبارات تراثية متوارثة تنعى الفقيد وتعدد مآثره

"راجل زين مليح طلع من البدنه عاودا بلاه الرجال يا ندمه".. هذه الكلمات هي نموذج لإحدى "العدودات" التي تنتشر في الصعيد مصر، معبرة عن حالة الحزن التي يشعر بها أهل الفقيد المتوفى، والعدودة هي رثاء من التراث الشعبى يحفظ في الأذهان، توارثتها سيدات الصعيد عبر مئات السنين، ويستخدمنها فى رثاء أقاربهن عقب كل حادث أليم أو مفجع.

وتعد العدودة بمحافظة الأقصر بمثابة مدح للمتوفى تنشده سيدات متشحات بالسواد، جميعهن أقارب ومعارف، يتجمعن أمام منزل المتوفى فى سرادق كبير، ثم يأخذن "يعددن" الواحدة تلو الأخرى.. ذلك هو المشهد الذي يملأ قرى ونجوع الأقصر عقب كل حادث أو وفاة.

"نادى المنادي وكحرت النبوت، راح اللي كان ضلهُ مالي علينا بيوت، نادى المنادي وكحرت القُله، قال افتحوا نعشهُ وأبكي على العله، القبر ديق ولا يسيع طولك وله يسيع إللي فوقاي يخشولك"..

"أخويا شقيقي وريحة أمي فيه، أمانه يا حصى القبر خليك حنين عليه، أمانه يا مغسل قبل ما تغسل العين، ميل عليه وقولهُ أختك تروح لمين، بالله اعملو قبر أخويا زين، أخويا كان غالي وكحل العين، بالله اعملو قبر أخويا مليح، شباك يكون عالي يخُش منهُ الريح".

وهناك "عدودة" تقول "قبر مين اللى البقر داسه.. قبر الحبيب اللى هجر ناسه"، وأخرى "يا اللي ابتليتي طولي بالك، إنتي ابتليتي وبلوتك طالت".

يقول عبد المنعم عبدالعظيم، مدير مركز دراسات تراث الصعيد بالأقصر، لـ"أهل مصر" إن العدودة هي قصائد رثائية قديمة تنوح بها السيدات على المتوفين، وهى تتكون من أبيات شعرية، الشطر الأول فيها له نفس قافية الشطر الثانى، موضحًا أن لكل متوفٍ قصائده؛ فيختلف رثاء الفتاة عن المرأة المتزوجة، والشاب الصغير عن الرجل الكبير، ومن يمت فى داره، غير من مات فى غربة عن بلده وقريته، ومن هذا الرثاء: "قالوا شقية قُلت من يومى.. قسّموا النوايب طلع الكبير كومى".

ويضيف "عبدالمنعم" واصفًا المشهد: نساء الصعيد والأقصر اتخذن هذا الرثاء للنواح به فى الجنازات، فتبدأ إحداهن بترديد أحد هذه الأبيات، لتردد وراءها باقى السيدات، ثم تقوم أخرى ببيت جديد، وهكذا حتى يأتى الدور على السيدة الأولى، والعدودة تختلف من قرية إلى أخرى.

ويؤكد أن فن العدودة أهم فنون الحزن التى تميز بها صعيد مصر، أى البكاء على الميت ورثائه، ووصف طعم الحياة بدونه، حيث تجد ذلك الفن التلقائى الشعبى تتداوله ألسنة نساء الأقصر فى المآتم، يتناقلنه ويتوارثنه عن أمهاتهن ويورثنه لبناتهن جيلا وراء جيل.

وأردف: هى رثاء شعبي، ونغم حزين يحرض على البكاء، وينشط الذاكرة عن الفقيد بشكل عام، وهى من العادات القديمة في قرى الصعيد، ومازالت مستمرة نسبيًا، فـ"العديد" مهنة تمتهنها سيدات محددات يمارسن نشاطهن في المآتم.

وحرصت "أهل مصر" على جمع بعض "العدودات" التى تنشدها سيدات الحزن فى بيوت فقراء الصعيد ليودعن موتاهن بالجلال الذى يستحقونه، فوجدنا من "العدودات" أنواعا كثيرة حسب نوع الميت ذكرا أو أنثى، وحسب عمره، والطريقة التى مات بها، إلخ.

وتقول عدودة تصف الشخص الذي توفى وكان ثريا وذا منصب: " قدام بيتهم ساقية وجنينه.. ومن العبيد تلاته أربعة.. يسوا غداء العلية.. قدام بيتهم ساقية نعاره ومن العبيد تلاته أربعة.. يسوا غداء النوارة.. أوعوا تدفنوا الرجال خلوها.. رجالنا وإحنا نعوزوها.. القبر قاله أنزل وأنا اتلاقاك.. آناستني وقطعت بإللي وراك".

فيما تقول عدودة الفتاة التى ماتت على "وش جواز" مخاطبة قبرها: "جايلك عروسة محنية الكفوف والكعب، خدت معاها الحنة وسابت وجع القلب".

أما عدودة الأم التى تموت تاركة خلفها أولادها الصغار فتقول: "غراب البين عالنخيل يبكي، عاللي تفوت عيالها وتمشي، غراب البين عالنخيل ينوح، عاللي تفوت عيالها وتروح"، وتقول أيضا: "من يوم فراقك والشاي في دارنا بطلناه، وشايك مع الحفار شيعناه"؛ لكن تقول عدودة الام التي توفىَ لها أولادها: "لمام يا تراب لمام.. خدت الصبية والجدع العجبان".

وتقول عدودة الشاب الصغير الذى وافاه الأجل المحتوم: "ياعود طري واتلوي، ميل ومال على الأرض، امبارح كان في وسطنا، والليلة تحت الأرض"، وأما من مات زوجها فتقول: "جالي جوزي لما يقعد جاري.. لما يلاقيني ويسلم عليا سلام يرضيني، وبعد السلام يقعد يخاليني (تقصد يخلو بها).

وتقول الزوجة التى مات زوجها وكانت تراه ذا قدر عند قومه: "كنت فين يا وعد يا مقدر، دي خزانة وبابها مصدر، يارجاله عدوا عمايمكم، عمه كبيرة غايبة عنكم"، وأخرى تقول: "طلعت الجبل على ذمة ألقاهم.. لقيت التراب والحصى سواهم.. كل الناس قربها مسنودة على الحيط.. إلا قربتى مكسورة ومرمية تحت الحيط.. لما دخل الدكتور ببدلته البني.. كشف عليك الملاية وقال يامري".

وتقول عدودة الشاب الذي مات غلفة إثر مشاكل أو ثأر: "اتنين عليك واتنين على النخلة.. خدوك يا حبَيِب ساعة الغفلة".

وتقول الزوجة عندما مات زوجها مأذون القرية، لتطالب حفار قبره ألا يسرع فى الحفر، ويتمهل حتى يمكث عامًا كاملًا، وأنها عبرت عن حبها الشديد لزوجها الراحل، بلغة قوية: "يا مغسل متغسلهوش قوام.. خليه يونسنا.. واحفر له قبره فى عام.. ده القاضى يوحشنا".

وهناك عدودة تقول عندما يقع شخص قتيل: "يا نايحة نوحي عليه نوحي، فلان اتمدد على اللوحِي، زقزق يا عصفور وازعق يا غراب، فلان مقتول ومرمي في الخراب".

وهناك عدودة تقول على الرجل الذي توفى ولم ينجب أولادا ذكورا أو عانى قلة الخلفة، فى الموروث الشعبى: "قليل الخلوفة بنيت لك بيت.. وليه سبته وزى الحمام فريت.. ندامه على اللى راح ما خلف.. زى الحمام لا باض ولا ولف".

وتستمر العدودة: "قليل الخلوفة لفوه فى سرواله.. ولم عادت الجلسة تجيب ساله.. قليل الخلوفة لفوه فى فرشته.. ولم عادت الجلسة تجيب سيرته".

وهناك عدودة أخرى عن الشخص الذي إنقطع حسه من الدنيا لأنه ليس له نسل يحمل اسمه، والبنت تتمنى أن يكون لأبيها ابن حتى لو كان متخلفا عقليا: " ياريت لابويا ولد ومتهبل.. يمسك جريد النخل ويسبل.. ياريت لابويا ولد وهبيل.. يمسك جريد النخل لما يميل".

وهكذا نرى الموروث الشعبى فى العدودة، أن عدم الخلفة يورث الحسرة والندامة، وتستمر البكائية: "قليل الولد على المغسلة قلوه.. حسه انقطع من ساعة ما ودوه.. قليل الولد على المغسلة اتدلى.. حسه اتقطع من ساعة ما ولى.. قليل الولد قال مين يعززك ياراس.. ياترى ولادتك ولا ولاد الناس.. قليل الولد يقول مين عززك ياعين ياترى ولادك ولا ولاد الغير".

ويستمر العديد إلى ما بعد مراسم العزاء: "عزى المعزى وكحرت البلاص.. مالوش ولد ياخد العزا من الناس.. عزى المعزى وكحرت الجرة.. مالوش ولد ياخد العزا بره"، ثم إلى الميراث الذي تركه والده: "نادى المنادى فى دواوينه.. قليل الخلوفة فردوا طينه.. دخل القياس والقصبة فى إيده.. كان اشتراه ولأعطاه سيده".

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً