في وقت تحاول فيه القوى الإقليمية والدولية طي صفحة الصراع في اليمن عبر الوسائل الدبلوماسية، تبرز قراءة مغايرة تماماً في أروقة صنعاء وطهران، حيث لا يُنظر إلى الهدوء الحالي كحل سياسي أو تسوية، بل كإعلان غير مكتوب عن "انتصار استراتيجي" حققه الحوثيون دون الحاجة إلى خوض معارك كبرى جديدة، وسط تراجع ملموس في أوراق الضغط التي كانت بيد التحالف السعودي-الإماراتي.
سياسة الأمر الواقع: سيطرة الحوثيين برداء دبلوماسي
تشير التقارير الواردة من صنعاء إلى أن جماعة "أنصار الله" نجحت في الانتقال من مرحلة الدفاع عن البقاء إلى مرحلة فرض الإرادة. ويقول مراقبون إن الحوثيين أصبحوا لاعباً لا يمكن تجاوزه في ملف الأمن الإقليمي والملاحة الدولية، وهو ما تعتبره طهران "نصراً صامتاً" أجبر العالم على التعامل مع الحوثيين كقوة أمر واقع، بعيداً عن أحلام التحالف في الحسم العسكري.
التحول الاستراتيجي هذا منح الحوثيين قدرة على التحكم بمفاصل الضغط الإقليمي، سواء عبر تهديد الممرات البحرية في باب المندب أو التأثير على الأمن الداخلي لجنوب اليمن، في حين تكبد التحالف السعودي-الإماراتي خسائر كبيرة على صعيد النفوذ والموارد العسكرية.
طهران تسخر: صواريخنا تحمي مصالحنا الاقتصادية
في الكواليس، يبدو الخطاب الإيراني متسمًا بالسخرية الاستراتيجية تجاه الرياض وأبوظبي. فبينما تنشغل السعودية بتسريع "رؤية 2030" وتكثف الإمارات جهودها لترسيخ مكانتها كمركز تجاري عالمي، ترى طهران أن هذه الطموحات الاقتصادية أصبحت رهينة للهدوء الذي يفرضه الحوثيون على الأرض.
ويشير محللون مقربون من المحور الإيراني إلى أن التحالف أصبح في موقف دفاعي، يسعى لتأمين منشآته الاقتصادية والسياسية، بدل أن يكون الطرف الذي يفرض الشروط ويحدد المعادلات، وهو انعكاس مباشر لفقدان المبادرة على الأرض.
صراع النفوذ: إدارة الخسائر وتحجيم الانكماش
على الصعيد الميداني، تظهر تحركات السعودية والإمارات الأخيرة كجهود لإدارة الخسائر وتقاسم ما تبقى من النفوذ في المحافظات الجنوبية، في حين يراقب الحوثيون هذا التآكل بارتياح.
أبرز ملامح هذا التراجع تشمل:
سقوط الورقة العسكرية: فشل سنوات من العمليات لم يغير الخارطة الجغرافية لصالح حلفاء التحالف، ليصبح الخيار العسكري محدود الفاعلية.
اليد العليا في التفاوض: قدرة الحوثيين على تعطيل أو تفعيل الممرات المائية الاستراتيجية تمنحهم ثقلًا دوليًا يتجاوز حجمهم المحلي.
الزخم الإيراني: توظيف طهران للملف اليمني كأداة ضغط في مفاوضاتها مع الغرب، مستفيدة من صمود الحوثيين كدليل على نجاح استراتيجية "تعدد الساحات".
فالمشهد الراهن في اليمن، من منظور المحور الداعم لصنعاء، يمثل ذروة نجاح استراتيجية طويلة الأمد، إذ تم استنزاف موارد السعودية والإمارات مالياً وعسكرياً، ليعود التحالفان في نهاية المطاف إلى طاولة المفاوضات بشروط الحوثيين.
إنها مرحلة "الانتصار بلا حرب"، تحول فيها الحوثي من مجرد متمرد إلى لاعب صعب يحمي حدود المملكة ويقوّض النفوذ الإقليمي التقليدي، بينما تحتفل طهران بما تصفه بـ"إنجاز تاريخي" يعكس كسر هيبة القوى الإقليمية التقليدية وتراجع قدرتها على فرض إرادتها بالقوة.