'شاعر النيل' هو اللقب الذي أعطاه له رفيق دربه أمير الشعراء أحمد شوقي، والذي رثاه بنفسه في وفاته قائلًا: 'قد كنت أوثر أن تقول رثائى.. يا منصف الموتى من الأحياء'، فهو أحد رموز مدرسة 'الإحياء والبعث' في الشعر العربي، وكان شعره مرآة لآلام وآمال الإنسان والأمة، فلم يقتصر لقبه على ما لقبه به أمير الشعراء، فلقبه محبيه بـ 'شاعر الشعب'، فهو الشاعر الراحل حافظ إبراهيم، الذي تحل اليوم الاثنين 21 يونيو ذكرى وفاته.
ويستعرض 'أهل مصر'، في السطور بعض الجوانب من حياة 'شاعر الشعب' والكشف عن بعض الأمور التي لا يعرفها الكثيرون عنه، وظروف حياته وبؤسه وعلاقته برجال عصره من الأدباء والشعراء ورجال الدين والسياسة والاجتماع.
'أيشتكي الفقر غادينا ورائحنا ونحن نمشي على أرض من ذهب'
نتحدث عن حافظ إبراهيم الذي عاش حياته بين الفقر والبؤس ومحنة عدم الزواج، حسب ما ذكره الكاتب القدير لطفي جمعه في كتبه عنه، كتب عندما تحدث عن أول لقاء جمع بينه وبين شاعر النيل: 'رأيت حافظ إبراهيم لأول مرة سنة 1904 في بيت أحد الأعيان، وكان أسود هزيلًا دائم الصمت كأنه يحمل على كاهله جبلًا.. لقد كان فقر حافظ حقيقة موجعة فلم يتزوج طوال حياته ولم يعقب ولم يغادر بيته في عمارة البابلي إلا عندما نزح إلى حلوان للاستشفاء.. وروى لي بعد ذلك بأنه كسب مالًا كثيرًا من الشعر ولكن ضعيه على الكرم وأناقة المطعم والمشرب وبر ذوي القربى، ولم يكن يعاشره في بيته أحدًا سوى والدته التي رحلت وتركته في 1906'.
'طريد دهر جائر الأحكام.. مشتت الشمل على الدوام.. ملازم للهم والسقام'
في بيت الشعر الصغير السابق ذكره، نستطيع أن نستشف الحالة النفسية والحياة التي كان يعيشها شاعرنا حافظ إبراهيم، ومن جانبه كتب 'جمعة' أيضًا في كتابه 'الفلاكة والبوهيمية في الأدب القديم والحديث' أن شاعرنا كان أول من ذكر مصطلح 'الفلاكة' في الأدب العربي الحديث، بالجزء الأول من ديوانه الذي نشره بالعام الأول من القرن العشرين.
وعن بؤس حياة 'شاعر النيل' كتب الكاتب والإذاعي الكبير الراحل طاهر أبو فاشا، في كتابه: 'الذين أدركتهم حرفة الأدب' قائلًا: 'حافظ زامن الفقر إلى الحد الذي يدفعه إلى تصوير بؤسه وسوء حاله.. صحيح أن أباه توفى وهو في الرابعة وتركه في كفالة خاله، ولكن هذا لا ينتظمه في سلك البؤساء.. ومن الغريب أنه كان يرسل الشعر الشاكي الحزين وهو في أشد حالاته انسجامًا وطربًا.. فكان في حياته تناقض يجمع بين البؤس والشكوى والفكاهة والطرب.. حتى قال عنه طه حسين: أن حافظا يتكلف البؤس وينتحل سوء الحال ويفتن في شكوى الزمان'.
وهو ما نفاه الكاتب لطفي جمعه، مؤكدًا على أن بؤس حافظ إبراهيم كان حقيقة واقعة ويقول: 'ما زال المرحوم حافظ يشكو الفلاكة ويشبه نفسه بالمفلوكين حتى أسعفته الحكومة بالمنصب والرتبة في 1912، ليعيش بعدها 20 عامًا منعمًا إلى أن توفى في يوليه 1932.. وكأنه قصى هذا الأعوام الـ20 شابًا متعلمًا ساعيًا في الرزق مسالمًا ومحاربًا ومهاجرًا إلى حدود الأربعين.. فأدركته منيته في بحبوحة من العيش ولم تكن فاقته وإملاقه وعسره معنى من المعاني بل كانت حقائق مادية'.
'فلم نزل وصروف الدهر ترمقنا شزرًا.. وتخدعنا الدنيا وتلهينا حتى غدونا ولا جاه ولا نسب.. ولا صديق ولا خال يواسينا'
'مسامرة الزعماء'.. هو فعل كان يقوم به الشاعر الراحل حافظ إبراهيم، حسب ما كتبه صديقه والكاتب لطفي جمعة، فيقول: 'علمت بنفسي أن المرحوم حافظ إبراهيم، وإبراهيم الطاهري كانا يضحكان محمد محمود باشا 'رئيس وزراء مصر في عهد فؤاد الأول'، وكان 'شاعر الشعب' يروي له قصص الأدب القديمة كالأغاني ومجونيات أبي نواس.. وابتعد كل منهما عن هذا السبيل، بعد أن سدد 'الطاهري' ديونه، ودخل مجلس الشيوخ، وترقى 'حافظ' في دار الكتب، وصمت 20 سنة عن النظم والشعر'.
وكان من بين الأشخاص الذين كان يسامرهم شاعرنا أيضًا، الزعيم الراحل سعد زغلول، الذي كان يحتاج إلى مسامرين في 'مسجد وسيف' أثناء استجمامه، وكان مسامروه اثنين 'إبراهيم'، ومحجوب ثابت، وكان شاعر النيل ليس جريئًا في مجلس سعد على أن يروي قصص الأدب المكشوف، حيث ترجع علاقة الزعيم بالشاعر إلى انتماء حافظ إبراهيم إلى الشيخ محمد عبده.
ومن المواقف الطريفة التي جمعت بين الثلاثة 'حافظ' و'زغلول' و'محجوب'، أن الأخير يحكي للاثنين عن أنه حلم في منامه بأنه امتطى سهوة ثور هائج وتمكن من اقتياده والسيطرة عليه، وكان يمشي خلفه ألف حمار، فطلب الزعيم من شاعرنا أن يفسر هذا الحلم، ليقول: 'الدكتور سينجح في الانتخابات والثور الذي تمكن منه فهو الكرسي الذي سيجلس عليه بالبرلمان'، ليرد 'محجوب' وما تفسير الألف حمار، ليرد حافظ: 'هم رمز للرجال الذين انتخبوك'.
'يرغي ويزيد بالقافات تحسبها قصف المدافع في أفق البساتين.. من كل قاف كان الله صورها من مارج النار تصوير الشياطين.. قد خصه الله بالقافات يعلكها'.
أبيات الشعر السابقة قالها 'حافظ' على سبيل مداعبته لصديقه الدكتور محجوب، الذي اشتهر باستخدامه لحرف القاف في أبيات شعره وأحاديثه، وهي ما تدل على الحس الفكاهي والساخر عند الشاعر الراحل حافظ إبراهيم، وما يؤكده أيضًا علاقته بأمير الشعراء أحمد شوقي.
ففي أحد الأيام التي جمعت بين 'حافظ' و'شوقي'، خرج الأول عن صمته وقال: 'يقولون إن الشوق نار ولوعة.. فما بال شوقي أصبح اليوم باردًا'، ليضحك الثاني ويرد عليه: 'وحملنا إنسانًا وكلبًا أمانة.. فضيعها الإنسان والكلب حافظا'.
امتزج شعر حافظ إبراهيم بالعديد من النواحي، من بينها المراثي والوطنية والإسلامية، وتوفي ورحل عن عالمنا لم يترك خلفه ابنًا أو بنتًا له، ولكنه ترك دواوين من الشعر ستظل خالده إلى نهاية التاريخ، ويتعلم منها كل مريدي الأدب في العالم العربي، وكان يقول حافظًا:
'غزلت لهم غزلًا رقيقًا فلم أجد لغزلي نساجًا فكسرت مغزلي'.