فى منزل عتيق شامخ بمركز طنطا بمحافظة الغربية، وداخل غُرفة لا يتسِع براحها للكثير من المرضى، حيث لا تتجاوز مساحتها تقريبًا 5 أمتار أوأقل، يجلس عجوز سبعيني وهو يُتابع سنوات عُمره تمر أمامه كما شاء أنّ تصالحُه الدنيا بها ويقضى ماشاء من عمره كما حلم، يشعُر بمجىء النهار عندّما يحتل ضوء الشمس أركان الحوائط الأربعة، فيما يصل إلى آذانه صوت آذان الفجر يوميًا يعرف أنّ الحياة لا تزال تفتح يديها لأحد، لديه يقين أنّ الكون يدور فى فُلك من حولِه.
تجدهُ يسير فى طٌرق قديمة اختاره أن يقطنه داخل أحياءه بنفسه لمساعدة الفقراء، بملابسِه ذات الطرز القديم، يتحدث مع من حوله بابتسامة هادئه، لا ترتفع نبرة صوته إلا فى الضرورة، لعدم اهتمامه يبدو لك من الوهلة الأولى أن مظهره غير مكتمل، لكنه يقطن داخل نفسه أنه لا يتوجب أن يكون قميصه متناسقًا مع لون البنطلون، فكل ذلك ظاهريًا ولا يعنى له من الاهتمام ذرة، وخلال رحلته إلى العيادة يداعب أنفه خليط الروائح المنبعثة من الطرق القديم داخل الأحياء الفقيرة ودكاكينه، ولكنه يميز أنفاسها وسط هذه الروائح المتراكمة؛ روائح الدكاكين الأكثر تزاحمًا، بأقبيتها وأبوابها الخشبية المكتسية بشباك العنكبوت.
"طبيب الغلابة"، أو"محمد مشالي" كلاهما سواء، يحب التعامل مع الأمور ببساطة رغم تجاوزه 70 عامًا، طُبعت ملامح وجههِ بالرِضا، تجدهُ صبوحًا... تخرج من كلية الطب قصر العيني في القاهرة، وتخصص في الأمراض الباطنة وأمراض الأطفال والحميات، ليعمل في عدد من المراكز والوحدات الطبية بالأرياف التابعة لوزارة الصحة المصرية في محافظات مختلفة، وفي عام 1975 افتتح عيادته الخاصة في طنطا، وتكفل برعاية أخوته وأبناء أخيه الذي توفي مبكرًا وتركهم له، ولذلك تأخر في الزواج، ولديه 3 أولاد تخرجوا جميعًا من كلية الهندسة، وظل لسنوات طويلة يخصص قيمة كشفه الطبي في عيادته، والذي لا يزيد عن 5 جنيهات، وذلك قبل أن تزيد وتصل إلى 10 جنيهات، وكثيرًا ما يرفض تقاضي قيمة الكشف من المرضى الفقراء، بل ويشتري لهم العلاج في كثير من الأحيان.
وفى رحلة البحث عن «علاج الغلابة»، تأثر الدكتور مشالي بموقف وفاة طفل بين يديه لعدم قدرة والدته على شراء الدواء له وهنا كانت نقطة تحول في حياته وكان على نحو التفاصيل التالية: "جاء لى طفل صغير مريض بمرض السكر وهو يبكى من الألم ويقول لوالدته أعطينى حقنة الأنسولين، فردت أم الطفل لو اشتريت حقنة الأنسولين لن نستطيع شراء الطعام لباقى أخواتك، ولا زالت أتذكر هذا المواقف الصعب، الذى جعلنى أهب علمى للكشف على الفقراء".
طبيب بشرى من بيئة متواضعة، كرث حياته وعلمه لخدمة الغلابة فأنشأ 3 عيادات للكشف عليهم بأجر رمزى 10 جنيهات، بعدما تخرجت من كلية طب القصر العينى في عام 1967، يدفع المريض مبلغًا رمزيًا لا يتجاوز الجنيهات، ليكون سببًا في علاج ملايين المصريين الذين لا يقدرون على مصروفات الكشف والأدوية، رفض طبيب الغلابة ملايين الجنيهات من إحدى البرامج التلفزيونية، تعليقاً على رفضه، قال: "رفضت قبول التبرعات، وأنا أوصيهم بتقديم هذه التبرعات لغير القادرين، وأنا لا احتاج لها، قدموا هذه التبرعات للأطفال بلا مأوى، أوالأطفال الأيتام، أومن يريد التبرع لى قدموا هذه التبرعات إلى محافظ الغربية لصرفها على المحتاجين"، مؤكدًا أنه جندي مجهول ولا يحتاج للمال وسيظل دائما سندا للفقراء وطلب التبرع بالمبلغ للفقراء.
كانت "فلسفته في الحياة" تتمثل فى كوّنها من قراءة الكتب والعمل في الوحدات الصحية بالقرى والكفور: "كان زمان الناس فقيرة أوي وأنا عشت وسط الأرياف، وكنت أحيانًا أجد مرضى يموتوا بسبب عدم قدرتهم على الذهاب إلى طبيب أوشراء أدوية، وتعلمت أن بإمكاني أن أرحم هؤلاء.. ربنا سخرني ليهم"، موكد أن إيراد العيادة كافي لتلبية احتياجاته، مضيفاً: "الرزق القليل فيه بركة وأنا يكفيني القليل، صحيح كشفي 10 جنيهات، لكن أنا بيجيلي يوميًا ما لا يقل عن 200 إلى 300 حالة".
فجر اليوم الثلاثاء.. رحل فى صمت وهدوء الدكتور محمد مشالى، بعد صراع طويل مع الدنيا ومتطلبات الحياة، والعديد من المناوشات مع أبناء مهنة الطب، عن عمر يناهز الـ 76 عامًا، خاضها ذهاب وإياب بين عيادته والوحدات الصحية بالأرياف.
وليكن فى ذكراتنا أنه لم يملك سيارة قط أوحتى دراجة، بل رافقه القطار طوال رحلته يقضي معظم حياته بين البسطاء الذين يشبهونه ويشبههم، ذلك الكهل السبعيني، الذي اعتاد حمل حقيبته والتجول على قدميه فى شوارع مدينة السيد البدوى، ترك وصية قبل وفاته تظهر كيف كان جميلاً بسيطاً.