أبدا لم تكن الروايات البديعة تقاس بحجمها، فربما كانت مائة واحدة من الصفحات كفيلة بإنجاز مهمة الكاتب في التعبير عن قضيته، وبث حكايته، وطرح أسئلته وإمتاع قارئه، أقول ذلك بعد أن انتهيت من قراءة رواية بالغة التكثيف لم تنحو نحو الإطالة ومع ذلك اكتملت الحكاية، ولم تنحو نحو التفاصيل ومع ذلك اتضحت القضايا، ولم تغرق في التلفاز ومع ذلك حضر التشويق، ولم تفرط في المجاز والاستعارة ومع ذلك جاءت في لغة راقية ترتاح لها القلوب وتسمع لها الآذان.
دعونا نبدأ بالأجمل لأن الأجمل هو الأبقى في نفس القارئ، وربما اختلفت جماعة القراء في الإجابة عن سؤال كهذا،: ما هو أجمل ما كان في الرواية؟ ربما قال قائل إن أجمل ما في الرواية أن الكاتب لم يستحضر خياله ثم راح يؤلف لها موضوعا وصراعا، وأخذ يبث فيها الدراما متكلفا إياها، بل العكس كان صحيحا فقد عمد إلى تصوير واقع مؤلم لمجتمع يتخبط في قاع فساده، واستحضر شخصيات من دم ولحم نكاد نعرفها لأننا إما سمعنا عنها أو قابلناها أو تعاملنا معها في تجارة مثل شاهيناز التي كانت تعمل في سوق العقارات منذ كانت مجرد سمسارة إلى أن صارت واحدة من حيتان المجال، وقد نكون تعاملنا مع صحفي برجماتي ينعق مع كل ناعق مثل علاء مراد الذي انغمس في قاع الفساد عندما جعل من نفسه أداة للتشهير وفضح البعض لصالح آخرين، وكذا نعرف في حياتنا مثل على الجرايحي المحامي الذي يعرف كيف يكسب قضاياه ويفوز ببنت أستاذه ويقبل على نفسه العيش في منزل زوجته ووالدها.
ولا شك في أن جميعنا يعرف الأستاذ فخري الرجل المحب لوطنه وأثار وطنه، وهو نموذج لكل وطني يخاف على بلاده ولا يقبل امتهان ذاته وعلمه من أجل المال والمراكز، إذن قد يكون بعضنا معجبا بالرواية من هذه الزاوية، وربما يقول آخر بل ما أعجبني فيها القضايا التي ناقشتها الرواية وهنا لا بد من أن أشيد بهذا الرأي لأن الكاتب استطاع أن يسرد لنا سردا صحفيا عبر أبطاله عدة قضايا شائكة تمثل فسادا مطلقا، وهنا يقول المعجب بقدرة الكاتب على إثارة القضايا: انظر إلى قضية طموح المرأة التي لا تشبع من ملذات الحياة وماديتها كيف وصلت بها الحال، وكيف كان سلوكها طول الرواية وكيف كان قلبها قاسيا لم يضعف أمام مشاعرها ولم يستجب لضمير الأنثى بل راحت تستغل جمالها وقوامها للوصول إلى أهدافها،
وانظر إلى قضية الفساد الكبرى في سوق العقارات والأسواق المتعلقة بها كيف تدار فيها المؤامرات من أجل إسقاط المنافسين على النعيمي نموذجا
وكذا قضية الإعلام الموجه الذي يعمل لمن يدفع وهنا نتذكر على الفور البنت الكبرى لشاهيناز، داليا فخري التي كانت حريصة على الوصول بكل السبل
ولا ننسى قضية تهريب آثار الوطن حيث كان فخري ممثلا لكل شريف لا يقبل على نفسه أن تعبث الأيادي الخارجية في باطن أرض بلاده
هذا غير كثير من القضايا التي جاءت عارضة في متن الرواية مثل قضية الفن والمتحكمين فيه من القتلة والمجرمين، قضايا عديدة ناقشتها الرواية وفتحت باب الحديث فيها من أجل تنوير الناس وتنبيه الغافلين بما يجرى في وطنهم، وهذا جانب آخر ومهم من جوانب جمال الرواية
وقد يقول قائل إن أشد ما أعجبني هو استخدام الكاتب للراوي العليم الذي كان مناسبا جدا لسرد الأحداث إذ كانت لديه المقدرة على تصوير الظاهر والباطن من الأحداث والشخصيات، كان قادرا على الولوج خلف الأبواب المغلقة لنعرف حقائق ما كان لنا أن نعرفها لولاه، وإلا قل كيف كنا سنعرف ما يدور في منزل الجرايحي وكيف كانت علاقته بزوجته مريضة الاضطراب النفسي، أو كيف كنا سنعرف والذي حدث لفخري بعد ما غادر وطنه وغاضبا عاقدا العزم على عدم الرجوع، نعم قد يعجب البعض بهذه الطريقة في استخدام الراوي العليم وهذا جانب آخر
وقد يقول قائل آخر إنما سر إعجابي بها أنها كانت بلازمون محدد، فنحن لا نعرف على وجه الدقة متى حدثت الأحداث هل كانت الأحداث قد وقعت في مدة لا تتجاوز العام مثلا أو العامين؟
وهنا يكون اختيار الكاتب_إذا كان اختياره قصديا ولم يأت وليد المصادفة
نقول هنا يكون اختيار الكاتب موفقا لدرجة كبيرة كأنه يقول إن الفساد المستشري لا حدود زمانية له كما أنه لا حدود مكانية له أيضا
وقد يكون سر إعجاب آخر التكثيف ولغة الكاتب البسيطة غير المعقدة والتي أعزوها إلى كون الكاتب صحافيا يميل إلى الوضوح والمباشرة والوصول إلى المضمون من أقرب طريق ولذا لم يكن مشغولا باللعب الفني فلم نره يراوح بين الضمائر، ولم نره محتفظا بمفاجئة باستثناء واحدة هي سر إعجابي، ولم نره متبنيا حديث الشخصية عن نفسها فقد تكفل الراوي العليم بذلك، ولم نره محلقا في سموات الاستعارة والمجاز وكذلك لم نره شغوفا بالمناخ والطقس من حر وبرد ونسيم، ولذلك جاءت الرواية على وتيرة واحدة، تكفل فيها الراوي العليم يحكى الحكاية والانفراد باختياره الديكتاتوري في طرحه للشخصيات، وضح ذلك من خلال تغافله عن رد فعل زوجة الجرايحي بعدما أصر الرجل على زواج ابنه من هناء ابنة شاهيناز التي كانت تكن لها كراهية مفرطة، كل ما سبق قد يكون من أسباب إعجاب القراء بالرواية كل من زاوية تخصه
بينما الذي هو أجمل بالنسبة لي كان يتمثل في الحبكة الفنية التي احتفظ فيها الكاتب لنفسه بمقدرة هائلة من القدرة على المفاجئة، ومن دواعي إعجابي أيضا أن الحل كان هو عين العقدة، فلقد تصاعدت أحداث الرواية حتى وصلنا إلى ذروة الأحداث بعدما عرف سامح ضابط الشرطة أن سارة ابنة فخري هي أخت هناء التي تقدم لخطبتها، وهنا كانت العقدة إذ الأبطال جميعهم الآن أمام المشكلة، وأيضا كان في هذا الموقف الحل حيث كان سهلا الوصول إلى سارة التي كانت تبحث عن أخواتها من أبيها بعدما غادر هو الحياة، رواية الجلسة الواحدة، المهمومة بما يعانيه الوطن، رواية لا تتبنى فكرة الفن للفن، بل الكاتب يؤمن بالفن الهادف لمناقشة قضاياه، ملاحظتان اثنتان كانتا حجر عثرة من وجهة نظري الشخصية، الأولى تمثلت في كم الأخطاء اللغوية التي تفرقت في جنبات الرواية،
الثانية الفصل الخاص بالتفصيل الزائد في وصف شقة الزوجية الخاصة بسامح وهناء والذي اعتبرته رغبة شخصية من الكاتب في معالجة هذه الزاوية التي يحبها ويحب الحديث فيها، لان وصف الشقة بكل تفاصيلها الخاصة بالحوائط والأثاث واللوحات وحتى لون كل ركن من أركان الشقة، أقول إن كل ذلك لم يكن مؤثرا بالمرة على مجريات الأحداث
فيما عدا ذلك وإذا كان لي من وصية فاني أوصى المهتمين بالسينما في تحويل هذه الرواية إلى فيلم بعد معالجة سينمائية.