اعلان
اعلان

هل تهدد العملات رقمية «مركزية» دور البنوك التجارية؟

العملات الرقمية
العملات الرقمية
كتب : وكالات

لم تترك الثورة الرقمية مجالا إلا اقتحمته وغيرت من معالمه بشكل جذري، ما يعرف بظاهرة زعزعة الأوضاع القائمة disruption، حيث تقوم التقنية بتغيير الحلول التقليدية والانتقال بها إلى نماذج أعمال جديدة ومختلفة.

الأمثلة لهذه الزعزعات عديدة في مجال التجارة الإلكترونية والمصرفية الإلكترونية والخدمات الحكومية وغيرها، حيث تشترك جميع هذه الأعمال في توظيف تقنية المعلومات في تعديل طريقة عمل هذه القطاعات، كما حصل من خلال حلول الاقتصاد التشاركي والهندسة المالية 'فنتك' وإجراءات سير العمل في الخدمات الحكومية.

أحد آخر هذه التطورات التقنية المزعزعة هناك التوجه المتزايد نحو إصدار البنوك المركزية لعملاتها الرقمية الخاصة بها، الأمر الذي قد يقلب الموازين على مستوى القطاعات المالية، وقد يهدد العلاقة الحميمة بين البنوك المركزية والبنوك التجارية، بل قد يغير من مفهوم النقود والمال ويغير من شكل الودائع والقروض وآلية أسعار الفائدة وتكاثر النقود.

ما المقصود بالعملة الرقمية للبنوك المركزية؟

هناك خلط بين مفهوم النقود الرقمية أو الأموال الإلكترونية وبين فكرة العملة الرقمية في سياق البنوك المركزية، التي لا يقصد بها استخدام التقنية الرقمية في العمليات المالية، كون ذلك حاصل من عشرات الأعوام من خلال المصرفية الإلكترونية وبطاقات الائتمان وأنظمة المدفوعات. وحتى إذا تم التخلص تماما من النقد الورقي والمعدني في الاقتصاد، وتم استخدام التقنيات الرقمية بشتى أنواعها في العمليات التجارية والمالية، فإن ذلك لا يعني أننا قد انتقلنا إلى مجال العملة الرقمية، بل إن ذلك مجرد عملية تحول إلى المال الرقمي أو النقود الإلكترونية.

العملة الرقمية للبنوك المركزية تعني قيام البنوك المركزية بإصدار عملة جديدة، ستكون رقمية لا شك ولكنها قد تكون مشفرة، كما في العملات الشعبية المشفرة، مثل بيتكوين وإيثيريوم، وقد لا تكون مشفرة، وقد تكون موجهة بشكل مباشر للأفراد أو تكون موجهة للأفراد من خلال أطراف وسيطة. كما أن هذه العملة الرقمية الجديدة قد تمارس من خلالها جميع أدوات السياسة النقدية الحالية التي تمارس من قبل البنوك المركزية أو بعض من هذه السياسات، وقد تنتج عنها سياسات نقدية جديدة غير متاحة حاليا. بل إن الأمر المثير للدهشة في هذا الجانب أن البنوك المركزية قد تجد نفسها قادرة على ممارسة السياسة المالية للدولة بشكل أفضل وأسرع من الجهات الحكومية المناط بها تاريخيا هذا الدور، كوزارت المالية في الحكومات.

صرعات تقنية عابرة!

منذ انطلاق عملة بيتكوين المشفرة قبل أكثر من عشرة أعوام والبنوك المركزية والبنوك التجارية تراقب المشهد باهتمام متذبذب ومتشكك من جدوى هذه التطورات التقنية، التي كان ينظر إليها على أنها صرعات تقنية عابرة ستصطدم بالواقع الحقيقي قريبا وستختفي من الوجود، إلا أن ذلك لم يحدث. بل على العكس فقد بدأت شعبية العملات الرقمية المشفرة بالازدياد وخرجت منها مئات الأصناف والتفرعات بقيم سوقية تضاهي القيم السوقية لأكبر الشركات المدرجة في أسواق الأسهم، وأكبر من اقتصادات عدة دول مجتمعة.

يبلغ حجم التداول للعملات الرقمية خلال شهر واحد ثمانية تريليونات دولار، وذلك أعلى من حجم تداول أقوى عملتين، الدولار واليورو، الذي لا يتجاوز 250 مليار دولار شهريا في سوق الفوركس. قارن ذلك بقيمة النقود الورقية في العالم البالغة نحو خمسة تريليونات دولار، أو نحو 1.2 من إجمالي الثروة في العالم.

وفي الوقت الذي دعت فيه وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين الفيدرالي الأمريكي بدراسة إصدار دولار رقمي، وكذلك ما ألمحت إليه رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاجارد في أن يكون هناك يورو رقمي بحلول 2025، فقد أصدر بنك الشعب الصيني عملة اليوان الرقمي في 2019 وبدأ تجربته في (أبريل) من العام السابق، ووصلت معاملاته المالية في (نوفمبر) الماضي نحو عشرة مليارات دولار لـ140 مليون شخص، وذلك على الرغم من كونه لا يزال في طور الوضع التجريبي.

وعلى الرغم من نجاح العملات المشفرة في جذب اهتمام عامة الناس كوسائل لحفظ الثروة والاستثمار، إلا أنها لم تنجح كوسائل دفع إلكترونية سريعة وسلسلة، والسبب الرئيس في ذلك يعود إلى طريقة عملها من الناحية الفنية ودور سلسلة الكتل والتعدين وفك التشفير، حيث على سبيل المثال تتطلب عملية الإدراج في سلسلة بيتكوين الشهيرة نحو عشر دقائق للإدراج ضمن السلسلة التي يتم إضافة نحو 144 كتلة إليها يوميا، وكل كتلة تحتوي على نحو 1600 عملية مالية. سبب البطء يعود لاعتماد سلاسل الكتل على مبدأ إثبات الجهد الذي يتطلب معالجات حاسوبية طويلة، إلا أن ذلك قد يتغير قريبا، وقد يكون فرصة مواتية للبنوك المركزية لتقديم حلول بديلة وأكثر فاعلية.

بيتكوين وعملة فيسبوك تدقان ناقوس الخطر

لم تكن العملات المشفرة الوحيدة في دق ناقوس الخطر، بل كان إعلان شركة فيسبوك عزمها إصدار عملة ليبرا الرقمية قبل ثلاثة أعوام، وما صاحب ذلك من زخم كبير نتيجة تكتل عدد من المؤسسات المالية الكبرى، مثل 'باي بال' و'ماستركارد' و'فيزا' ومنصة 'إي باي' وغيرهم. كانت خطورة هذه الفكرة على البنوك المركزية هي أن عملة ليبرا مصممة من الأساس لأن تكون وسيلة دفع إلكترونية إضافة إلى كونها عملة رقمية خاصة، وبالتالي فهي تحل مشكلة وسيلة الدفع التي عجزت عن حلها العملات المشفرة.

التخوف من قدرة فيسبوك والجهات المتحالفة معها على الخروج بعملة رقمية ناجحة لم يكن مجرد أوهام، فشركة التواصل الاجتماعي لديها عملاء يزيد عددهم على ملياري مستخدم، وهم عملاء برامج فيسبوك وواتساب وإنستجرام، إلى جانب عملاء الجهات الأخرى، مثل باي بال والآخرين، وبذلك كان من الواضح أن هناك قاعدة جماهيرية كبيرة لا يستهان بها. هذا المشروع واجه عدة تحديات تنظيمية وتنسيقية أدت إلى تفكك الائتلاف بنهاية 2020، وتم تغيير مسمى المشروع إلى 'ديام'، التي تعني 'اليوم' باللغة اللاتينية، بدلا من 'ليبرا'.

بعض البنوك المركزية تدرس فكرة إصدار عملاتها الرقمية بأساليب قريبة من هيكل مشروع ديام في استخدام سلسلة كتل مغلقة خاصة بها، ليست مفتوحة مثل سلاسل الكتل المستخدمة في العملات المشفرة، كون النموذج المغلق يلائم طريقة عمل البنوك المركزية، إضافة إلى أن فكرة مشروع ديام تعتمد على وجود أصول حقيقية لدعم العملة، وليست مثل العملات المشفرة الشعبية التي لا توجد أصول تقوم عليها.

هل تنتهي العلاقة بين البنوك المركزية والبنوك التجارية؟

المستقبل غير معروف وهناك تجاذبات كثيرة لا يعرف حتى الآن ما ستنتهي إليه، ولكن من المؤكد أن علاقة البنوك المركزية بالبنوك التجارية ستتغير بشكل كبير، وأحد أبرز أسباب حدوث ذلك هو أن البنوك المركزية ستجد مزايا عديدة في العملة الرقمية الخاصة بها، ستغنيها عن البنوك التجارية في عدة جوانب. من أهم هذه الجوانب أن البنوك المركزية ستكون قادرة على التواصل المباشر مع العملاء دون الحاجة إلى وساطة البنوك التجارية كما هو حاصل الآن، وهنا نحتاج إلى بعض التفصيل فيما يلي.

السياسة المالية من خلال البنوك المركزية

تعتمد كثير من الحكومات على البنوك المركزية في تنفيذ بعض أوجه سياساتها المالية ولكن بطرق غير مباشرة، وذلك لكون البنوك المركزية معنية بالسياسات النقدية وليس المالية. وعلى الرغم من ذلك، بدأت بعض الحكومات منذ عدة أعوام بالاعتماد على البنوك المركزية بشكل متزايد في تنفيذ سياساتها المالية. على سبيل المثال عندما تكون هناك حاجة إلى التدخل الحكومي لدعم الاقتصاد نتيجة أي تعثرات حادة، كما يحصل نتيجة انهيار بعض الأسواق أو عندما تواجه بعض القطاعات صعوبات مالية أو عند حدوث ربكات اقتصادية بسبب انتشار الأوبئة أو الأمراض، فالذي يحصل عادة أن يقوم البنك المركزي بضخ السيولة في القطاع المالي بالطرق المتعارف عليها. إلا أن هذه الطرق ليست دائما فعالة وسريعة كون ذلك يتم من خلال البنوك التجارية، التي تمارس أعمالها في الإقراض والاستثمار وإدارة الأموال بطرقها الخاصة وبتحفظاتها المعتادة.

أحد الأدلة على قصور البنوك التجارية في المشاركة في تنفيذ السياسات المالية أن هناك تناقص ملحوظ في معدل دوران النقود، وهو مقياس اقتصادي يعبر عن مدى نشاط الاقتصاد وحيويته ويتم بمقارنة الناتج الاقتصادي بكمية النقود في البلاد. فمثلا، عندما يكون هناك حراك اقتصادي صحي فإن الريال الواحد يتم تبادله عدة مرات بين أطراف مختلفة، وهذا أمر صحي ومطلوب. يمكن تشبيه معدل دوران النقود بشركة تحقق مبيعات عالية من أصول قليلة، فالاقتصاد الذي يستطيع استغلال كميات النقود المتوافرة لديه لإنتاج أكبر قدر من السلع والخدمات يعد أفضل من اقتصاد أقل فاعلية في ذلك.

الملاحظ منذ عدة أعوام في عدد من الدول الكبرى التي تمارس ضخ السيولة من خلال البنوك التجارية أن تلك الأموال لم تجد طريقها إلى الاقتصاد كما ينبغي وكما هو متوقع، والنتيجة أن معدل دوران النقود كان في نزول مستمر. هذا يعني أن كمية النقود تزداد بمعدلات أعلى من زيادة الناتج الاقتصادي، كون معدل دوران النقود يتم بقسمة الناتج على كمية النقود.

هذه الإشكالية في تعثر توجيه السيولة إلى مستحقيها من شركات صغيرة ومتوسطة وأفراد يمكن أن تحل بشكل كبير ومؤثر لو كانت لدى البنوك المركزية آلية معينة للتعامل المباشر مع الأطراف المستحقة للدعم بتجاوز البنوك التجارية وسياساتها النقدية المتحفظة، وهذا ما يمكن تحقيقه من خلال العملة الرقمية للبنوك المركزية.

الحسابات البنكية قد تكون مباشرة مع البنوك المركزية

من المتوقع أن يتم فتح الحسابات المصرفية للشركات والأفراد من خلال البنوك المركزية بشكل مباشر، وهذا أحد النماذج المطروحة على الرغم من بعض التحديات في عملية تنفيذه، والنموذج الآخر هو أن يتم ذلك من خلال جهات أخرى وسيطة، قد تكون هي البنوك التجارية الحالية أو غيرها. الفكرة هنا أن البنك المركزي سيحاول أن تكون علاقته مباشرة مع المستفيدين لما في ذلك من فوائد كثيرة، مثل رفع كفاءة أدواته المخصصة لإدارة السياسة النقدية، كرفع أو خفض أسعار الفائدة والسيطرة على التضخم، ومن ناحية أخرى كون ذلك يفتح آفاقا جديدة للبنك المركزي لممارسة السياسة المالية بشكل مباشر لإيصالها إلى مستحقيها بعيدا عن معوقات البنوك التجارية.

إلا أن البعض يرى أن البنوك المركزية ليست مؤهلة للتعامل المباشر مع العملاء، ولا تمتلك الخبرة اللازمة للقيام بذلك، لذا فمن المتوقع أن تكون هناك أطراف وسيطة ولكن بقدرات وصلاحيات محدودة، كون حسابات العملاء ستبقى لدى البنوك المركزية، ويقتصر دور هؤلاء الوسطاء على دعم العملاء واستقطابهم وتقديم الخدمات المكملة لهم. هذا التوجه الجديد سيمنح البنوك المركزية والحكومات كما هائلا من البيانات المتعلقة بالتعاملات اليومية وطبيعتها وصفاتها وما إلى ذلك من بيانات مرتبطة بالخصوصية، وما يعنيه ذلك من تحديات. وستتمكن البنوك المركزية كذلك من مساعدة نحو 1.7 مليار شخص حول العالم، لا يملكون حاليا حسابات مصرفية، في الدخول إلى النظام المالي، ويمكنها كذلك تصميم عملات رقمية لأغراض معينة، أو تحديد استخدامها في منطقة معينة أو لسلع وخدمات معينة.

هل تمحو العملات الرقمية سيطرة الدولار؟

في 2019 ألقى مارك كارني محافظ بنك إنجلترا خطابا ذكر فيه أن التكنولوجيا يمكن أن تحل مشكلات هيمنة الدولار من خلال السماح لبقية العالم، وخاصة الدول النامية، باستعادة السيطرة على سياساتها النقدية، التي فقدتها نتيجة كون معظم المدفوعات الدولية يتم تسويتها بالدولار. قوة الدولار وسيطرته هي التي تمد الولايات المتحدة بالهيمنة والسيادة في علاقتها المتوترة مع الدول مثل الصين وروسيا. على سبيل المثال تمارس الولايات المتحدة الضغوط على شبكة سويفت المصرفية لإيقاف المعاملات المالية عن بعض الدول التي لا تتماشى مع السياسة الخارجية للولايات المتحدة.

نتيجة لهذه السيطرة الأمريكية سعت الصين لوضع قواعد عالمية مشتركة للعملات الرقمية في بروتوكولات ISO 20022، وهو معيار عالمي جديد يغطي البيانات المنقولة بين المؤسسات المالية، مثل معاملات الدفع ومعلومات بطاقات الائتمان والخصم وتداول الأوراق المالية وبيانات التسوية، حيث تمتلك الصين أعلى احتياطي نقدي في العالم بقيمة 3.4 تريليون دولار. وهذا من شأنه أن يسرع من عمليات التسوية الدولية للمدفوعات بالنسبة للأفراد والدول، ومن جهة أخرى ستستفيد الصين من حجم الطلب على عملتها الرقمية، خصوصا أن الصين تمتلك الجزء الأكبر من حجم التجارة العالمية بإجمالي 2.6 تريليون دولار ونسبة نحو 15 في المائة.

لماذا التردد الأمريكي فيما يخص العملات الرقمية؟

وفقا لـ كينيث روجوف، أستاذ الاقتصاد بجامعة هارفارد، ربما تكون الولايات المتحدة على بعد عقد من الزمن على الأقل قبل إصدار دولار رقمي مدعوم من بنك الاحتياطي الفيدرالي، فهل الولايات المتحدة لا تدرك طبيعة هذا السباق؟ أم أنها أقل كفاءة من دول بحجم كينيا والسلفادور وسنغافورة ونيجيريا والبهاما وغيرها ممن سارعت بتبني هذه التقنية الجديدة؟

المعضلة تتشكل لدى الولايات المتحدة في أن البنوك التجارية تهيمن على النظام المالي هناك، وهي قد اتخذت موقفا عدائيا مبكرا تجاه العملات الرقمية، ويظهر ذلك في بيان جمعية المصرفيين الأمريكيين بالكونجرس التي شككت في فوائد العملات الرقمية للبنوك المركزية، وأن العواقب السلبية قد تكون قاسية، وأن ذلك لا يمكن أن يتم إلا من خلال السلطة الدستورية في البلاد.

وفقا لـنومي برينز، التي كانت كبيرة الاستشاريين في ليمان براذرز، كلما زادت عمليات العملات الرقمية أو حتى شبيهتها المشفرة، انخفضت أرباح النظام المصرفي، وضعفت معها القوة المالية، ولذا فإن وجود عملة رقمية مصدرة من البنك المركزي ستفقد هذا القطاع نحو 17 تريليون دولار تجني منها البنوك التجارية مليارات الدولارات كأرباح سنوية من القروض وعمليات السحب وغيرها.

هذه العملة ستؤثر كذلك في أسواق الأسهم والقطاعات المالية، فالنظام المصرفي الأمريكي يتمتع بأكثر من 18 تريليون دولار كأصول، وصافي دخل يلامس 250 مليار دولار، في حين أن شركات الأسهم الخاصة تستثمر نحو 500 مليار دولار فيها، إلى جانب أن هناك نحو 600 بنك أمريكي مدرج في أسواق الأسهم. هذه المصالح الكبيرة ستتأثر سلبا وبشكل كبير حالما يعلن الاحتياطي الفيدرالي عن إصدار دولار رقمي.

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً
عاجل
عاجل
لأول مرة.. أهالي الجنود الإسرائيليين الأسرى يجتمعون اليوم مع نتنياهو