ترفض مصر وتونس شروط صندوق النقد الدولي للحصول على قروض جديدة هي في أمس الحاجة لها لاستيراد مواد أساسية ودفع أقساط الديون المتراكمة، هل يقف وراء الرفض مناورة أم توفر بدائل فعلية عن طريق جهات أخرى مثل 'بريكس'؟
مصر وتونس
وفي خطوة نادرة تدل على رفض مصري لمطالب صندوق النقد الدولي استبعد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تخفيض قيمة الجنيه مجددا.
وقال السيسي خلال مؤتمر للشباب أواسط الشهر الجاري يونيو 2023 بأن خطوة كهذه تضر بالأمن القومي والمصريين مضيفا: 'عندما 'يؤثر سعر الصرف على حياة المصريين، وممكن أن يضيعهم فهذا امر لا نستطيع القيام به'. وسبق تصريح الرئيس المصري تصريح أكثر نارية للرئيس التونسي قيس سعيد قال فيه في إشارة إلى شروط الصندوق المتعلقة بتقديم قرض جديد لتونس إن 'الإملاءات التي تأتي من الخارج وتؤدي إلى مزيد من التفقير مرفوضة'، وأضاف الرئيس سعيد ردا على سؤال حول مدى التقدم في المفاوضات مع المؤسسة المالية الدولية أن 'البديل هو أن نعول على أنفسنا'.
اتفاق مع القاهرة مؤجل التنفيذ
وتعاني كل من مصر وتونس من نقص حاد في الدولار الأمريكي للوفاء بالتزامات الدولة الأساسية مثل استيراد مواد غذائية وأدوية وتوفير مستلزمات زراعية وصناعية وخدمة الديون المتراكمة.ويزداد هذا النقص حدة بسبب ارتفاع أسعار الفائدة على الدولار وتراجع سعر كل من الجنيه والدينار تجاهه، إضافة إلى استمرار أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية المستوردة.
ومن أجل الحد من هذا النقص وتبعاته المتمثلة في ارتفاع الأسعار وزيادة نسبة الفقر والعجز عن خدمة المديونية والانهيار المالي، تفاوضت مصر مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض جديد أو ما يسمى حزمة انقاذ بقيمة 3 مليارات دولار، بينما تتفاوض تونس على قرض مماثل بقيمة 1.9 مليار دولار.
ورغم أن الحكومة المصرية وقعت منذ أواخر العام الماضي 2022 على اتفاق بهذا الخصوص، فإنها لم تحصل على أية دفعات من الحزمة المالية حتى الآن بسبب تأخير الحكومة تنفيذ شروط صندوق النقد وعلى رأسها خصخصة عشرات المؤسسات التابعة للدولة وتخفيض قيمة الجنيه مجددا من خلال ترك العرض والطلب يحددان سعره. الجدير ذكره أن قيمة الجنيه تم تخفيضها بنسبة 50 بالمائة على الأقل منذ فبراير2022، بعدما أدى اندلاع الحرب في أوكرانيا إلى خروج استثمارات أجنبية بقيمة 20 مليار دولار من الأسواق المالية المصرية.
وقد أدى هذا التخفيض إلى تراجع سعر العملة المصرية الرسمي إلى نحو 31 جنيها مقابل 39 جنيها للدولار الواحد في السوق السوداء، مما يعنيه ذلك المزيد من تدهور القوة الشرائية لغالبية المصريين الساحقة التي توفر موادها الغذائية الأساسية أو جزء منه بالاعتماد على دخل محدود للغاية أو على استمرار إعانات الدولة ودعمها لبعض السلع.
صندوق النقد الدولي
تونس تحصل على إغراءات
أما بالنسبة إلى تونس فإنها توصلت أيضا في أيلول 2022، أي قبل مصر، إلى اتفاق مبدئي مع صندوق النقد الدولي للحصول على القرض بقيمة 1.9 مليار دولار، غير أن المحادثات بشأن تنفيذه وصلت إلى طريق مسدود لأسباب من أبرزها رفض الحكومة التونسية حتى الآن إعادة هيكلة 100 شركة عامة مثقلة بالديون ورفع الدعم عن سلع أساسية.ويرفض الرئيس قيس سعيد كل من الهيكلة ورفع الدعم حسب شروط الصندوق بدعوى حماية 'السلم الأهلي' على حد قوله. ويدعم الرئيس سعيد في موقفه هذا قوى سياسية تونسية مؤثرة على رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل، وإزاء ذلك يؤكد صندوق النقد الدولي على استمرار المفاوضات مع كل من الحكومتين المصرية والتونسية لتجاوز نقاط الخلاف، وتدعمه في ذلك الحكومة الأمريكية التي دعت الحكومة التونسية مؤخرا على لسان وزير الخارجية أنتوني بلينكن إلى تقدم مقترحات بديلة للتوصل إلى حل مع الصندوق.
ورغم أن الاتحاد الأوروبي أبدى استعداده لتقديم قرض ومساعدات مالية بقيمة 900 مليون يورو شريطة تراجع تونس عن موقفها والاتفاق مع صندوق النقد، إضافة إلى قيامها بتشديد إجراءات الهجرة والتعاون مع دول الاتحاد لمنع تدفق المهاجرين بطريقة 'غير شرعية' إلى جنوب أوروبا وخاصة إلى إيطاليا، غير أن الرئيس سعيد الذي يشدد يوما بعد يوم قبضته على السلطة في تونس لم يغير موقفه.
وقد قال بهذا الخصوص في إشارة إلى الأوروبيين 'بأننا لايمكن أن نكون حراسا لدولهم، وأن الحل لا يجب أن يكون على حساب الدولة التونسية'. وأضاف سعيد بهذا الخصوص بأن المهاجرين يأتون إلى تونس كملاذ لأنهم 'ضحايا الحرب والفقر وغياب الدولة'، وتابع 'هؤلاء ضحايا نظام عالمي يتعامل معهم لا كذوات بشرية بل كمجرد أرقام'.
وتعاني كل من تونس ومصر من ثقل المديونية الخارجية للغرب أو للمؤسسات التي تسيطر عليها الولايات المتحدة والأتحاد الأوروبي بالعملات الصعبة، وهناك عجز مزمن في ميزان المدفوعات لكلا البلدين. ويزيد الطين بلة استمرار ارتفاع أسعار المواد الغذائية التي تشكل سنويا نحو 15 بالمائة، أي 15 مليار دولار من واردات مصر و9 بالمائة، أي أكثر من 2 مليار دولار من ورادات تونس.
رفض فعلي أم مناورة؟
وفي تونس تشكل نسبة المديونية الخارجية نحو 90 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، أي أكثر من 41 مليار دولار أمريكي. وعلى الرغم من النمو المتسارع في التجارة الصينية التونسية، فإن ثلث الواردات التونسية ما يزال يأتي من الاتحاد الأوروبي وأكثر من 40 بالمائة من صادراته تذهب إليه حسب معطيات المؤسسة الألمانية للتجارة والاستثمار. أما في مصر فإن المديونية الخارجية تزيد على 130 مليار دولار، في حين تشكل مديونية الدولة تجاه الخارج والداخل ككل أكثر من 85 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي الذي زاد على 470 مليار دولار العام الماضي 2023، وعلى صعيد التجارة الخارجية فإن مصر أقل ارتباطا من تونس مع الاتحاد الأوروبي على صعيد التجارة الخارجية، غير أن نسبة عالية من صادرتها الاستراتيجية تذهب إلى أوروبا وأن قسما كبيرا من مشاريعها الكبيرة يتم تمويله عن طريق دول ومؤسسات مانحة غربية أو يسيطر عليها الغرب.ومن هنا يطرح السؤال نفسه فيما إذا كان رفض كل من الرئيسين المصري عبد الفتاح السيسي والتونسي قيس سعيد لشروط صندوق النقد نوع من المناورة أم أنه يقوم على توفر بدائل لديهما للحصول على تمويل من مصادر أخرى؟
هل تحل "بريكس" المشكلة؟
كثُر الحديث مؤخرا عن عزوف دول مجلس التعاون الخليجي وعلى رأسها السعودية عن تقديم قروض ومساعدات مالية لمصر بشروط جديدة تختلف عن شروط تقديم مساعدات سابقة.ومن خلال المعلومات التي رشحت تبدوالشروط الجديدة مشابهة لتلك التي طرحها صندوق النقد الدولي، لاسيما المتلعلقة بخصخصة مؤسسات القطاع العام وتخفيض قيمة الجنيه.
وعلى ضوء صعوبات تنفيذ هذه الشروط يتم الحديث حاليا عن توجه مصري لتبادل البضائع بالعملات الوطنية مع دول مثل روسيا والصين، وعن تقديم طلب للانضمام إلى مجموعة 'بريكس' والاستفادة من قروض 'بنك التنمية الجديد' التابع لها، أيضا على الصعيد التونسي يجري الحديث عن توجه للانضمام إلى المجموعة وتبادل التجارة مع دولها بالعملات الوطنية في المستقبل المنظور.
ويرى مقربون من الرئيس قيس سعيد أن خطوة كهذه تدعم تحديث البنية التحتية التونسية بقروض من المجموعة وتمهد لجعل تونس نافذة عبور اقتصادية إلى أفريقيا جنوب الصحراء، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى التخفيف من الاعتماد على الدولار، حسب المؤيدين لفكرة الانضمام إلى بريكس!
تضم مجموعة بريكس الصين والهند والبرازيل وروسيا وجنوب أفريقيا، وهذه دول صاعدة تتمع بمعدلات نمو مرتفعة وهي في الصين والهند من بين الأعلى في العالم، أما تونس ومصر فما تزالان من البلدان النامية بمعدلات نمو منخفضة وبنى اقتصادية ضعيفة الكفاءة والتنوع، وعليه فإنها أقل جاذبية لتكتل مثل بريكس، وحتى لو انضم كلا البلدين إلى المجموعة فإن القروض التي ستقدم لهما عن طريقها لن تكون دون شروط أو مقابل.
وبذلك فإن مسلسل فخ الديون سيستمر رغم وجود فرصة لتبادل العديد من السلع بالعملات المحلية وتخفيف الاعتماد على الدولار،غير أن الأخير سيبقى العملة المهمينة على تجارة البلدين لأن صادرتهما إلى دول البريكس ضعيفة، ومما يعنيه ذلك أن الأخيرة سوف تطلب تسوية العجز مع تونس ومصر بعملة عالمية قابلة للتحويل وهي في العادة الدولار الأمريكي.
أهمية إطلاق القدرات المحلية
يبدو مجال المناورة مع الجهات المانحة كصندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي، على الأقل في المديين القصير والمتوسط محدود جدا لكلا البلدين. ويعود السبب في ذلك إلى حاجتهما الماسة لمزيد من القروض التي لن تحل مشكلة عجز الدولة عن دفع الالتزامات الأساسية، ولكنها تؤجلها باتجاه إما التخفيف منها أو جعلها أكثر حدة. ويعتمد الحد من المشكلة على تعزيز وتنويع قدرات الاقتصاد على الإنتاج المحلي، وهنا لا بد من العودة للتأكيد على ما قاله الرئيس قيس سعيد من أن 'البديل هو أن نعول على أنفسنا'.' غير أن التعويل على النفس يتطلب من الحكومتين التونسية والمصرية المزيد من الجرأة على طريق إطلاق المبادرات الخاصة وعدم تكبيلها بمزيد من القيود وهدر المزيد من الأموال العامة في قطاعات غير مجدية.ومما يعنيه ذلك إصلاح مؤسسات القطاع العالم الخاسرة منذ عقود ورفع الدعم عن الاستهلال مقابل زيادة الدعم للإنتاج المحلي، ولا يغير من ضرورة ذلك ما إذا كانت هذه من مطالب صندوق النقد الدولي أم لا، وفي حال فشل دعم الإنتاج المحلي وتنويع مصاد الدخل، فإن حلقة الديون المفرغة ستبقى قائمة ومعها استمرار ضياع فرص التنمية وتحسين مستويات المعيشة.