لم تمر عمليات الإزالة للتعديات على أراضي الدولة أو المباني الغير مرخصة مرور الكرام على المجتمع المصري، كما لم تمر بردًا و سلامًا على الدولة، إذ كانت مادة سياسية خصبة، ومعركة بين عدة أراء سواء المؤيدة للهدم مهما كلف الأمر سياسيا، وأخر بضرورة التريث وإعادة فتح أبواب التصالح أو تقنين الأوضاع بقيم رمزية.
تلك المادة السياسية التي استخدمت بشكل كبير في دعم موجة من الغضب الشعبي أو بداية تأجيج مشاعر المواطنين لتصل إلى ممانعة ومقاومة المواطنين لتطبيق قرارات الإزالة، حتى وصلت في بعض الأماكن لاستخدام القوة من الطرفين، وهو ما أراه المشهد الأخطر الواجب عدم تكرارة.
وقبل أن يأخذنا الهوى سواء كان بالتأييد أو المعارضة، ونبدأ في دعم أي من وجهتي النظر، يجب أن نغوص أكثر في سبب المشكلة والأزمة، إذا كنا نريد الحل بصدق، ولا نريد مسكنات إعلامية أو أمنية أو سياسية قد تؤدي للاستمرار في التعدي على أراضي الدولة، أو قد تؤدي لفرقة بين المواطن وإدارته، من خلال تأييد كل البطش الممكن في تطبيق القانون، دون الالتفات لضرورة المراجعة السياسية لأسباب الأزمة.
نتحدث سويًا عن الأسباب، فسبب بناء المصريين على الأراضي الزراعية أو استغلال الأراضي الخاصة بالدولة، ووضع اليد للسكن عليها، يكمن في شقين، الشق الأول: عدم قدرة الكثير من المصريين المالية على الشراء في مشروعات الإسكان للدولة، أو عدم ملائمتها للاحتياجات الخاصة بهم، وبُعدها جغرافيا عن أماكن التمركز السكني لعائلاتهم أو أعمالهم.
والشق الثاني: يقين تلك المجموعة من المتعدين أن أمر التعدي يمر بردًا وسلامًا سواء بمسكنات زمنية من خلال تعاملات غير شرعية مع جهات تطبيق القانون والتراخيص بالإدارة المحلية، أو جذريا من خلال امكانية تقنين تلك الأوضاع اللاحق بالتصالح أو من خلال الدعاوى القضائية لو بعد حين.. دعونى أُلخص وجهة نظري عن الأسباب الرئيسية لهذا التعدي في الأتي:
أولا: يكمن أن البناء الغير شرعي الاستمرار للأبناء بنفس الكتلة العمرانية، ومنه فعلى الدولة التفكير في أماكن اختيار المجمعات السكنية والتخطيط لها، ليخرج التفكير من إطار تعمير الصحراء للتفكير في إنشاء الظهائر المعمارية والمدن 'الموازية'، وهي المقاربة والملاصقة للمدن القديمة، هذا الأمر قد يكون عنصر الجذب الأول لتلك المجموعات سواء لعدم المغامرة بالأرض الزراعية وتبويرها، والمغامرة القانونية بالبناء عليها، واقتراف جريمة التعدي على الأراضي.
ثانيا: الشق الاقتصادي والأسعار، يتلخص في أن السكن الغير قانونيا أقل تكلفة من امتلاك سكن قانوني، ومنه يجب أن يُعاد تسعير تلك الوحدات الجديدة بالمدن الموازية، لتكون الأسعار مقاربة لتكلفة البناء الغير قانونيا، فتكلفة مواد البناء على المواطن أو الدولة واحدة، كما يكون فارق سعر الخدمات للمدن الجديدة هو سعر التكلفة، بل يكون السداد بالتسهيلات المناسبة، ومنه دفع المواطن لاختيار الالتزام بالقانون من خلال باب مصلحته الشخصية وليس الإجبار، نظرا لأن الالتزام بالقانون قد يوفر له مميزات ايجابية عن مخالفته.
ثالثا: التحفيز الايجابي لأبناء المجتمعات العمرانية القديمة، إذ يجب أن تكون هناك حزمة من المميزات الايجابية والأولوية لأبناء المناطق القديمة، وهم الأفراد الذين عادة ما يقومون بتلك الأعمال المخالفة في البناء، لذلك يجب أن تكون لهم الأولوية في الحجز أو الحق في تخفيض خاص بالأسعار أو تسهيلات في السداد، كونهم الأبناء الأصليين بتلك المناطق، وأن تختلف عن الوافد الجديد على تلك المنطقة وليس من أبناءها.
رابعا: الخدمات المميزة، ومن عوامل التحفيز يجب أن يكون لكل مجتمع موازي خدمات مميزة ومناسبة، تُميز السكن فيه عن المجتمع القديم، وذلك من المواصلات والتسهيلات وسبل الحياة ليس المتوازنة مع المجتمعات العمرانية والزراعية القديمة، بل أفضل منها وأكثر جذبًا وسهولة، ومن خلال توفير تلك السبل مبكرًا بل وقبل بداية إنشاء تلك الكتل السكانية الموازية تجعل كل من كان لدية نية التعدي إعادة التفكير في الانتقال للمجتمعات الجديدة، التي قد توفر له المال وسُبل حياة أفضل من الاستمرار في مجتمعه القديم.
خامسا: عمل الأجهزة الرقابية بكل قوة وحسم على معاقبة كل من قام بتسهيل تلك المخالفات، بل وتفعيل جهات الرقابة والتفتيش الداخلي على الإدارات المحلية، بالإضافة إلى سرعة الانتهاء من قانون الإدارة المحلية، الذي انتظرته مصر من مجلس النواب المنحل لأكثر من خمس سنوات ولم يخرج حتى الآن إلى النور، هذا القانون الذي يجب أن نرى فيه رقابة كافية وعقوبات رادعة لكل من فتح أبواب الفساد والإفساد، وسهل المخالفات بنفس قوة غلظة عقوبات الإزالة والهدم.
الأمر الأخير: يكمن في القوة الناعمة والذكية للدولة، حتى إن تم التصالح في أي مخالفات يجب أن تنتهج الدولة منهج عدم تقديم خدمات جديدة أو رفع كفاءة الخدمات القديمة، إذ تظل تلك الأراضي المتعدي عليها خارج إطار التطوير وتحسين الأوضاع لها، حتى بعد اكتساب الشرعية القانونية، فليس دور الدولة مكافأة من يتخطى القانون، لكن دور الدولة الدفع بالمواطنين لمجتمعات جديدة وصحية ومتطورة.
اتباع هذا المنهج قد يصل بنا يومًا لعلاجًا نهائيًا لتلك المشكلة، طالما كان البناء المخالف بنفس تكلفة الانتقال لوحدة تابعة للدولة، بل ومع زيادة عناصر الجذب الآخرى والخدمات والمواصلات، والأهم استمرار المواطنين داخل نطاق مجتمعهم الأصلي للسكن، فلماذا إذًا سيغامر المواطنين بمخالفة القانون؟، ومن ذلك تكون الدولة رفعت أسباب المخالفة بل وبات الالتزام بالقانون والانتقال للمجتمعات الجديدة الموازية في مصلحة الجميع مواطنًا ودولة.
الجميع قد يكون رابحًا من خلال هذا المسار، فلا يمكن أن يكون مقبولًا في يوما من الأيام عدم قدرة الدولة على تنفيذ القانون على أراضيها، و لا يمكن أيضا أن يكون شعبًا راغبًا البقاء في شكل العشوائيات خارج إطار الخدمات أو الحياة الكريمة.
اقرأ أيضًا: مروان يونس يكتب: ما بين كورونا وترامب وانتخابات البرلمان