بعد الاعتداء الإرهابي الوحشيّ في مدينة 'نيس' الفرنسيَّة (29 أكتوبر 2020)؛ والذي قام به متطرفون إرهابيون، ممَّا تسبَّب في مقتل رجلٌ وسيدتين، وإصابة ستة أشخاص آخرين، تعرَّضت العاصمة النمساوية 'فيينا' لحادث آخر أصاب سكانها بالذعر الشَّديد؛ عقب ليلة دامية جرَّاء أعمال عنف وحشيَّة، امتدّ هذا الخوف إلى سكان بعض الدول الأوربيَّة المجاورة، خاصَّة أنه كانت هناك حالة من الاستقرار والهدوء بعد الإعلان عن سقوط تنظيم 'داعش' الإرهابي.
ولكن على الرَّغم من تأكيد غالبية أجهزة الاستخبارات الأوربيَّة في تقاريرها الأمنيَّة لعام 2019 على تراجع خطر التطرَّف؛ نتيجة لدحر وهزيمة تنظيم 'داعش' الإرهابي في سوريا والعراق، إلا أن احتمالية قيام التَّنظيم بعمليات إرهابيّة -كما بيَّن مرصد الأزهر في عدد من التَّقارير- لا تزال قائمة بشكل كبير؛ رغبة منه في إثبات استمراريَّة وجوده على الأرض، بالإضافة إلى الخطر الكبير للعائدين من هذا التَّنظيم الإرهابيّ؛ وذلك لتلقيهم تدريبات عسكريَّة ومشاركتهم في عمليات قتاليَّة في سوريا والعراق.
هذا إلى جانب تهديدات الذئاب المُنفردة والمتعاطفين مع التنظيم الإرهابيّ؛ الذين تستدرجهم الخطابات التحريضية لأبواقه الإعلاميّة لتنفيذ أعمال إرهابيّة في الدول الأوربيَّة. وبالتالي تعمل الجماعات المتطرفة على استغلال الأزمات لنشر أفكارها العنصريَّة، واستقطاب عددٍ كبير من الشَّباب، وكذلك التَّرويج لأيدولوجيتها المتطرفة العنيفة.
وقد كانت النمسا حتى هذا الحادث بعيدة عن العمليات الإرهابيّة، ويؤكّد هذا تصريحات طَرفه بَغجاتي، رئيس مبادرة مسلمي النمسا وعضو المجلس الاستشاري للشبكة الأوربيَّة لمناهضة العنصريّة، في مقالٍ له في الصحيفة الأسبوعيَّة النمساويّة 'دي فورشه' (Die Furche) وحوار له مع إذاعة غرب ألمانيا (WDR): 'أن النمسا بعيدة نسبيًا عن موجة الهجمات الإرهابيّة في أوربا في السنوات الأخيرة. فقد كان يُعتقد بأن فيينا عاصمة دولة حياديَّة في مأمن عن مثل هذه الهجمات مقارنة بباريس ولندن وبروكسل على سبيل المثال'.
ولكن ما حدث مساء الاثنين 2/11/2020 قد غيَّر هذه الفرضيَّة، فقد قام أحد الإرهابيّين بإطلاق النار في ستة مواقع في وسط العاصمة النمساويّة فيينا؛ وهي منطقة حيوية، حيث يوجد المعبد اليهوديّ المركزي وكثير من المطاعم والمقاهي المكتظة بالمواطنين. وقد ارتفعت حصيلة القتلى جرَّاء الهجوم إلى أربعة قتلي، رجلين وامرأتين بحسب آخر المعلومات الصادرة عن السُّلطات النمساويّة، وجُرح في الهجوم ما لا يقل عن خمسة عشر آخرين، غالبيتهم في حالة حرجةً، وفق تصريحات الشرطة النمساويّة، كما قُتِل منفذ الهجوم الذي كان يحمل بندقية رشاشة ومسدس وحزام متفجرات، تبيَّن فيما بعد أنه مزيف.
وقد أكدت السلطات النمساويّة على لسان وزير الداخليَّة النمساوي 'كارل نيهامر'، أن هجوم فيينا 'له دوافع إرهابية' وأن منفذه 'شخص متطرّف يبلغ من العمر 20 عامًا، وكان يشعر بأنه قريب إلى تنظيم داعش الإرهابي'.
وأضاف الوزير أن المهاجم سبق أن أُدين في أبريل من عام 2019؛ لأنه حاول السفر إلى سوريا للانضمام لتنظيم داعش، وحُكم عليه بالسجن 22 شهرًا، وحصل بعدها على إفراج مشروط.
وذكرت تقارير صحفية أن منفذ الهجوم؛ يسمى 'كارتين إس' من 'أصل ألباني' ووالديه من مقدونيا الشماليَّة، وقد وُلد ونشأ في العاصمة فيينا، وكان معروفًا لدى المخابرات المحليَّة النمساويّة؛ لأنه كان بين 90 متطرفًا نمساويًّا أرادوا السفر للقتال في سوريا سابقًا في صفوف تنظيم 'داعش' الإرهابي.
وهنا تتبادر إلى الذهن عدَّة أسئلة، فالمتهم ولد وترعرع في النمسا، وتعلَّم في مدارسها، ومع ذلك سقط في شبَّاك التطرُّف، الأمر الذي يدق ناقوس الخطر حول عدَّة أمورٍ، منها توجيه جهود الاندماج بالشكل الكافي إلى الشَّباب، فهذا الإرهابي في مرحلةٍ عمرية خطيرة، وهي التي يتمُّ فيها غالبًا استقطاب الشَّباب للتطرّف، فقد بينت تقارير سابقة لمرصد الأزهر أن أعمار أغلب من يتمُّ استقطابهم من الجماعات المتطرفة تتراوح بين السابعة عشر والرابعة والعشرين، وعليه فإن جهود الاندماج ينبغي أن توجَّه لمن هم في هذا العمر، خاصَّةً وأن المتهم معروف بتطرفه لدى السلطات، كما أنه كان تحت المراقبة.
كذلك يتبادر إلى الذهن سؤال آخر، كيف لهذا المتهم وهو تحت المراقبة أن يحصل على هذا الكمَّ من الأسلحة الخطيرة؟! وهذا يدلُّ قطعًا على وجود عدّة ملاحظات على الأداء الأمني، خاصَّةً أن انتقال المتهم في ستة أماكن بهذه السرعة، يشير إلى معرفته الكبيرة بالمكان، وتخطيطه لهذا الهجوم الإرهابي.
إعلان داعش مسؤوليته عن الحادث
هذا وقد أعلن تنظيم 'داعش' الإرهابي مسؤوليته عن حادث فيينا، حيث قام بالحادث أحد الذئاب المنفردة، وعن ذلك يؤكد مرصد الأزهر أن تنظيم داعش يعرف أهمية الذئاب المنفردة؛ لذا يقدَّم لها خطابًا إعلاميًّا تحريضيًا، وهو الخطاب الذي يسعى من خلاله إلى تحويل الأفراد من رافضين للواقع إلى متمردين عليه، ومن مشاهدين للأحداث إلى مشاركين فيها، والذئاب المنفردة رغم عدم انتمائها تنظيميًّا إلى داعش؛ إلا أنها تأثَّرت بخطابه الإعلاميّ، ونفَّذت عمليات دهس وطعن وإطلاق نار.
ردود الأفعال داخل النمسا
وعلى خلفيَّة الحادث الأليم عقد المستشار النمساوي سباستيان كورتس، اجتماعًا مع حكومته ووجَّه كلمة للشعب، أكَّد فيها أن بلاده تعرضت لهجوم 'ضد قيمها ونظامها الديمقراطي'، متوعدًا: 'سندافع عن ديمقراطيتنا، وسنتعقب الضالعين في الهجوم ومن يقفون خلفه'.
لكن 'كورتس' شدَّد في الوقت ذاته على أن التَّصدي للإرهاب لا يعني محاربة المنتمين إلى 'طائفة دينيَّة معينة'، فـ'لا يجب الانزلاق إلى ما يريده الإرهابيون، وهو نشر الكراهية وإحداث انقسام داخل المجتمع بين النمساويين والمهاجرين'.
وأضاف 'يجب أن ندرك أن هذا ليس صراعًا بين المسيحيّين والمسلمين أو بين النمساويين والمهاجرين؛ وإنما هو صراع بين قلَّة تريد العنف وأكثريَّة تريد السلام'.