كشف الدكتورعلي الحفناوي، نجل المستشار القانونى لتأميم قناة السويس عن أسرار الساعات التى سبقت قرار الرئيس جمال عبد الناصر الذي أعلنه فى خطبته الشهيرة بميدان المنشية بالإسكندرية معلنا خلالها تأميم القناة وذلك من خلال مذكرات والده.
وقال الحفناوي لـ'أهل مصر': 'توضيحا لحقيقة ما ظهر فى فيلم ناصر 56، حيث طغت الحبكة الدرامية، فسأروي بعض الأجزاء التى استقطعتها من مذكرات والدى الدكتور مصطفى الحفناوى فقد ذكر والدى فى مذكراته أنه تلبية لاستدعائى من المزرعة من قبل حكمدار الإسكندرية للقائه، توجهت إلى دار هيئة التحرير بالإسكندرية، حيث استقبلني بغاية الحفاوة كل من الحكمدار المرحوم صديق عبد اللطيف، والليثي شقيق المرحوم جمال عبد الناصر، الذي لم أكن أعرفه من قبل'.
وتابع 'فوجيء بأطباق من الكباب، وتناول ثلاثتنا وجبة غداء متأخرة، وأُبلغت القاهرة تليفونيا أني في الطريق إلى الطائرة. وقـد رافقني إليها المرحوم صديق عبد اللطيف، ومع كل هذا التكريم تغلب سوء الظن، ولم تفارقني هواجس الاعتقال فور هبوط الطائرة بأرض المطار'.
واستدرك 'لكني وجدت سيارة (شيفرولية) كانت تنتظرني، ولقيت صديقا آخر يستقبلني وهو من رجال الثورة، وكان من أقرب المقربين للمرحوم عبد الناصر، وهذا الصديق هو إبراهيم الطحاوي، الـذي أفهمني أنه كلف بمرافقتي إلى دار الرئيس الراحل بمنشية البكري، وأنا أعرف الدار وترددت عليها ولقيني الرئيس فيها من قبل مرات'.
وواصل الحفناوى فى مذكراته 'كان ذلك اليوم شديد القـيظ، وكان الرئيس يجلس مع آخر بالحديقة، ولم أكن أعرف هذا الآخر يومئذ، ثم علمت بعد انصرافه أنه (علي صبري) مدير مكتب الرئيس يومئذ للشئون السياسية، وأذكر أنه بمجرد أن دخلت من الـباب الحديدي للدار، نهض الرئيس - رحمه الله - بمجرد أن لمح وجهي، ولقيني في متتصف الحديقة وصافحني بحرارة'.
وأكمل 'قال الرئيس في أدب جم: آسف أشد الأسف، للطريقة التي استعملناها في إحضارك، فقد استعنا بالبوليس وأجهزة الأمن في القاهرة والإسكندرية، فبحثوا عنك هنا في القاهرة، فوجدوا بيتك موصدا وكذلك مكتبك، واتصلوا بنقابة المحامين وبجميع معارفك بالقاهرة للاهتداء إليك بدون جدوى، واتصلوا بنقابة وكلاء المحامين للتعرف على وكيل مكتبك لعله يرشد عنك، بلا فائدة، ثم نجح بوليس الإسكندرية، ولما عرف مكانك تم عمل الترتيب اللازم لنقلك بالطائرة'.
واستطرد 'الرئيس قال: أتعرف لماذا دعوتك لمقابلتي؟ قلت: لا.. قال الرئيس إنه قرر تأميم شركة قناة السويس.. وتكريما للجهود الضخمة التي بذلتها في هذه القضية عهد إلي بأن أكتب مشروع قرار جمهوري بتأميم الشركة، وأن الأمر جد عاجل، وأنه سيعلن هذا القرار للعالم كله في خطاب، قرر أن يلقيه بميدان المنشية بالإسكندرية في الساعة الثامنة من مساء يوم ٢٦ يوليو سنة ١٩٥٦'.
نجل الحفناوى يكشف قصة تاميم القناة
وذكر الحفناوي في مذكراته أنه 'جرى بينه و بين عبد الناصر حديث طويل امتد إلى وقت متأخر من الليل، حيث طلب مني ـ رحمه الله ـ أن أبسط القضية، بدءا بالتاريخ، منذ قناة فرعون، وألا أوجز قط، وقال: أنا لا عمل لي الآن سواك، ألديك مانع من أن تستمر جلستنا إلى الصباح؟'.
وتابع نجل الحفناوى أن والده سجل فى موقع آخر من مذكراته، أن الرئيس أوضح لى أن أبناءه بالاسكندرية وأنه بمفرده بالمنزل، ولا يوجد شخص سوى حرس البوابة الخارجية. ثم دخلت مع عبد الناصر إلى حجرة مكتبه فوجدت المكان وقد افترشه كتبى وأعداد جريدتى ومستندات بكل اللغات عن قناة السويس متناثرة فى أرجاء الحجرة'.
يقول الحفناوى فى مذكراته 'أتانى الرئيس بجلباب أبيض قائلا: ممكن تاخد راحتك بدل لبس البدلة فى الحر ده.. فلبس كلانا الجلباب وجلسنا على الأرض لقراءة ومناقشة محتوى كل مستند يحتاج توضيح وتفسير.. وعند منتصف الليل، قام الرئيس إلى حجرة الطعام وأتى بطبق به بعض قطع الكبد الباردة وبعض الخبز، وقدمه لى موضحا أنه لا يبغى طلب مأكولات من خارج البيت حتى لا يعلم أحد بوجودى.. واستمر حديثنا إلى فجر اليوم التالى حتى بدأت بصياغة مسودة قرار التأميم'.
وواصل 'انتهت المقابلة بأمر من الرئيس بأن ألقاه في الليلة التالية، ومعي مشروع القرار الجمهوري، في ساعة عينها، وتمت المقابلة في الليلة التالية بحجرة الرئيس بمبنى قيادة الثورة، وجرى فـيها من الأحاديث ما جرى، وكان الأمر المشدد الذي صدر لي، هو ألا يعرف كائن من كان، أني موجود بالقاهرة؛ وذلك مراعاة لأقصى درجات السرية، كي لا يتنبه العدو فيأخذ حذره'.
أما عن ملابسات إقامة الدكتور مصطفى الحفناوى في جاردن سيتى ، فذكر نجله أنه فى عام 1951، وبعد أن عاد والدى من رحلة فرنسا التى ناقش خلالها رسالة الدكتوراة فى جامعة السوربون دفاعا عن حق مصر فى استعادة قناة السويس، وقد كان فى ذات الوقت يعمل فى المحاماة في مصر، نقل مقر مكتبه إلى حى جاردن سيتى، على بعد خطوات من مقر شركة قناة السويس بالقاهرة.
وأكمل 'انتقلت كذلك أسرتى للسكن بحى جاردن سيتى، على مقربة من مكتبه وكان هذا الانتقال مقصودا للتركيز على ملاحقة الشركة قانونيا فى كل مخالفاتها الادارية والمالية، حيث كان مقرها الرئيسى بنفس الحى'.
وتابع نجل المستشار القانونى لقرار تأميم القناة أنه فى بداية عام 1952، قام والدى بشراء فيلا من فيلات هذا الحى، وأسس بداخلها دار نشر ومطبعة، أسماهما دار 'زياد' لمكافحة الاستعمار، حيث كان زياد اسم شقيقى الذى توفى في حادث، ووضع لافتة مضيئة عليها 'المطالبة بتأميم قناة السويس'، وأصدر جريدة أسبوعية باسم 'قناة السويس'، تخصصت فى نشر المقالات المناهضة للاستعمار البريطانى والهجوم على شركة قناة السويس ومخالفاتها. وفى ذات الوقت استخدم مكتب المحاماة الخاص به فى الدفاع عن نقابات العاملين المصريين بشركة القنال، والترافع عنها مجانا فى مختلف قضاياها ضد الشركة.
بالإضافة إلى كل ما أثاره فى رسالة الدكتوراة، فقد تحول الدكتور مصطفى الحفناوى بذلك، إلى العدو اللدود لإدارة شركة القناة الأجنبية، خاصة الرؤساء والمديرين الذين تعاملوا معه فى فرنسا، وقتما استطاع اقتناء وثائق هامة من داخل مقرهم بباريس، تلك الوثائق التى تدين الشركة وتظهر تزوير مستندات تأسيسها.
وقد اضطرت الشركة إلى تخصيص سكرتارية متفرغة لترجمة كل ما يكتبه الحفناوى، سواء في مقالاته أو كتبه أو عرائض الدعوى القانونية، معتقدين أنه يعمل بتوجيه من الحكومة المصرية.
وأضاف نجل الحفناوى أن والده ظل منقطعا عن العالم، مختفيا بين جدران سكنه بالقاهرة إلى الساعة والدقيقة التي تحدث فيها الرئيس وأعلن القرار، فانتقل إلى مقر شركة القناة بجوار منزله فى جاردن سيتى.
وتوضيحا لطلب عبد الناصر من والدى بالذهاب إلى منزله بجاردن سيتى، على ألا يتصل بأى شخص، بما في ذلك أسرته، (حيث كنا نقضى أجازة الصيف بالإسكندرية)، فلم يكن الرئيس مدركا لوجود مكتب للشركة في القاهرة، حيث اكتفت التقارير بالإشارة إلى مكاتب الشركة في منطقة القناة.. لذلك، عندما قام والدى بتنبيه عبد الناصر بوجود المقر الإدارى في جاردن سيتى حيث يقيم، فقد كلفه بالاستماع إلى خطابه الشهير بالاسكندرية، على أن يتحرك من منزله بعد سماع ذكر اسم " ديليسبس"، للذهاب إلى هذا المقر الإدارى بالقاهرة، حيث ستنتظره قوة من الشرطة للاستيلاء على المقر، على أن يقوم هو بالتحفظ القانونى على كل مستندات ومحتويات مقر الشركة'.
وبالفعل، ظل والدى قابعا بالمنزل حتى سماع كلمة السر فى الإذاعة المصرية (ديليسبس).. فنزل من المنزل واتجه إلى مقر الشركة فلم يجد أى قوة تنتظره سواء من الشرطة أو الجيش فانتظر قليلا ثم قرر الدخول إلى المقر بمفرده.
وواصل 'يتوسط المقر حديقة جميلة، حيث وجد الحفناوى السيد 'الكونت فيليب دى جرايـــي' جالسا مع السيدة حرمه يحتسون الشاى، غير عالمين بما أعلنه رئيس الجمهورية منذ قليل عن تأميم الشركة العالمية لقناة السويس'.
وأردف 'كان هذا 'الكونت 'هو نائب رئيس الشركة المقيم بمصر بدرجة 'سفير الشركة'. أما المدير العام، فكان مقيما بالاسماعيلية. وكان الكونت يعلم من هو 'الحفناوى' (عدوهم اللدود)، فنهض من مقعده قائلا: أنت؟؟ ماذا تفعل هنا ! فرد عليه والدى : جئت أستلم منك قناة السويس. فانزعج الكونت وقال له ضاحكا: 'لقد جننت! لقد تصورت بعقلك المريض تحقيق أحلامك..!'، وهمّ بنداء الحرس لإخراج والدى المشاغب من المقر'.
وقال: فى تلك اللحظة، دخلت قوات الشرطة بقيادة الضابط 'التونسى' ومعه الصاغ 'عطا محمود'، الذى تم اختياره لإجادته اللغة الفرنسية (من خريجى مدارس الفرير) وعرف عنه الذوق الرفيع وقمة الدبلوماسية، فقام عطا محمود بإخبار الكونت بقرار التأميم بمنتهى الذوق والديبلوماسية،
هرع الكونت دى جرايي إلى الهاتف للاتصال بسفير فرنسا، الذى أشار عليه بالتعاون مع المصريين حتى اشعار آخر. فتوجه إلى والدى وقال له: 'الليلة تحقق أحلامك، أما غدا، فسننتظر التعليمات التى قد تحولها إلى كابوس'.
وأشار نجل الحفناوى إلى أن فرق توقيت وصول والدى والشرطة إلى مقر الشركة، فقد كان هو مقيما على بعد خطوات من الشركة، في حين أن الشرطة أفادت بالتوهان فى شوارع جاردن سيتى الدائرية.