جاء قرار الرئيس جمال عبد الناصر، بتأميم قناة السويس شركة مساهمة مصرية، ليعيد الحق لأصحابه، ويؤكد السيادة المصرية على جزء عزيز من أرض مصر، فقناة السويس تمثل مجرى حيوى وشريان تجارى من أهم الممرات المائية على مستوى العالم، ويؤكد قرار التأمين أن أرواح آلالاف المصريين التى زهقت خلال حفر القناة لم تذهب سدى وأن القناة هى هبة المصريين، وآلت بقرار التأميم للمصريين.
ويؤكد أحمد مسعد قاسم، الباحث والكاتب السياسي، أن قناة السويس التى حفرها أجدادنا بالسخرة، ودماؤهم اختلطت برمالها وتخللت حتى نبع الماء من باطن الأرض ليصبح ماء مباركًا بامتزاج دماء المصريين به، وتحولت القناة إليها بفعل فاعل ومع سبق الإصرار والترصد نتيجة توريط مصر وخديوها إسماعيل فى ديون خارجية لم تكن موارد الدولة المحتلة والمنهوب خيراتها قادرة على الوفاء بها أوعلى الأقل الوفاء بأعباء خدمة الدين والفوائد.
وأضاف قاسم، أن كل ذلك كان مقدمات مخططة ومدروسة ولم تأت من قبيل الصدفة مطلقًا بغرض تقنين وضع الدائنين فى مصر وسيطرتهم على القناة لضمان الحفاظ على مصالحهم الاستعمارية وسيطرتهم وبسط نفوذهم على القناة وعلى قلب العرب وأفريقيا ووسط العالم مصر، استكمالًا لمخطط سايكس بيكو تلك الاتفاقية التى وضعت بين إنجلترا وفرنسا وجعلت أمتنا العربية غنيمة مقسمة بين القوتين الاستعماريتين الأقوى حينئذ فرنسا وإنجلترا وكثير لايعلمون أن حفيد بيكو أحد طرفى الاتفاقية هو جاك جورج بيكو، كان آخر رئيس لشركة قناة السويس بعد التأميم، وهو مؤسس جمعية أصدقاء فرديناند ديليسبس التى تتبنى الآن فكرة عودة تمثال ديليسبس إلى قاعدته فى مدخل القناة الشمالى فى بورسعيد.
ويشير قاسم، إلى أن هذا ديليسبس الذى قامر بمستقبل مصر وخان الزعيم الوطنى الضابط المصرى الحر أحمد عرابى، وسمح بمرور السفن البريطانية العسكرية فى القناة ليسهم فى احتلال إنجلترا لمصر الذى دام سبعين عامًا حتى تم تخليص مصر منه على يد ثورة يوليو المجيدة، وبكفاح شعب مصر وعلى رأسه شعب بورسعيد الباسلة.
لماذا قرر ناصر تأميم القناة؟
وتابع قاسم حديثه متسائلًا: لماذا أمم عبد الناصر القناة عام 1956، ولم ينتظر انتهاء امتياز القناة الذى كان مقررًا له عام 1968؟، كل المقدمات والمؤشرات كانت توحى أن فرنسا وانجلترا، ليس فى نيتهما على الإطلاق تسليم القناة وكل التقارير والخطط التى كانت تتم فى القناة كانت تشير إلى أن مايتم من توسعات وتطوير وماينفق من نفقات وما يتم زيادته من عمالة ومرشدين ليس من قبيل من ينتوى تسليم القناة، وإذا أضفنا لذلك ماتم من تقاعس البنك الدولى عن تمويل مشروع السد العالى بعدما وعد بالتمويل كان مؤشرًا آخر أن القوى الاستعمارية لن تسمح لمصر أن تقوم فيها نهضة حقيقية ونمو محترم، فلابد أن تبقى مصر مجرد إقطاعية أومفرخة أوسوق لتصريف منتجات الغرب واستنزاف موارد مصر الطبيعية من قطن وخلافه بتحالف بين الإقطاعيين والرأسمالية المحتكرة والقصر الملكى لخدمة غرض المستعمر، لذا بيت ناصر فكرة التأميم، وعرضها على المختصين لدراسة الأمر فى سرية تامة، ومن أهم من كان لهم دور فى ذلك هو الدكتور مصطفى الحفناوي.
وأضاف قاسم، أن التقارير أكدت أن انجلترا قامت عام 1910 بمحاولة مع إدارة شركة قناة السويس للحصول على موافقة الحكومة المصرية بمد فترة امتياز استغلال القناة لمدة أربعين سنة إضافية مقابل بعض المال، لتنتهى فى 2008 بدلًا من 1968، واضطر الخديوى عباس حلمى الثانى، للاستعانة بالجمعية العمومية (اسم البرلمان فى ذلك الوقت) للحصول على الموافقة، فهب الشعب رافضًا تلك الاتفاقية، وقاومها شعبنا العظيم بقيادة الزعيم محمد فريد رئيس الحزب الوطنى، الذى تولى قيادة العمل الوطنى خلفًا للزعيم المرحوم الشاب مصطفى كامل، وكان نتيجة تلك المقاومة سجن الزعيم محمد فريد، وعدد من قيادات العمل الوطنى الشعبية مثل عبد العزيز جاويش، بينما ذهب الشيخ على الغاياتى، وهو شاعر مصرى أصيل إلى المنفى بسويسرا، ليواصل كفاحه وعلى نهج الزعيم مصطفى كامل، أصدر جريدة بالفرنسية والعربية أسمها 'منبر الشرق'.
وبقى الشيخ الغاياتى وهو مواليد 1875 متبنيًا قضية الوطن والقناة حتى جاء يوم تاميم القناة عام 1956، ليقول الشيخ الغاياتى، مقولته الخالدة: الآن فقط استطيع أن ارحل وأنا مطمئن على مستقبل وطنى، وكانت هذه آخر كلماته على فراش الموت، وبقى أن نذكر أن بريطانيا كانت تتعامل أنها مالكة للقناة ببحرها وسفنها وماحولها من أرض وما تجرى فيه القناة من مدن السويس والإسماعيلية وبورسعيد.
تأميم القناة لم يكن من قبيل الرفاهية .. بل كان أمرًا وجوديًا لاسترداد الحقوق
وقال قاسم دعونا نذكر تلك القصة التى ذكر تفاصيلها ومن مصادر موثقة الصديق الصحفى المؤرخ سعيد الشحات، كما وردت بقلمه شخصيًا لندرك ونعلم أن القناة لم تكن ستسلم لمصر أبدًا طواعية وإن تاميم القناة لم يكن أمرًا من قبيل الرفاهية أو استعراض العضلات إنما كان أمرًا وجوديًا لاسترداد الحقوق وإثبات الاستقلال الوطنى، (قنصل بريطانيا ينقل أسهم قناة السويس فى سبعة صناديق مغلقة إلى الإسكندرية بعد شرائها من الخديو إسماعيل توجه القنصل البريطانى فى مصر «ستانتون» إلى «نوبار باشا» وزير خارجية الخديو إسماعيل يستجوبه: «هل يبيع الخديو أسهمه فى قناة السويس لفرنسا؟.. أفضى نوبار بالتفاصيل، فطلب القنصل منه، ومن إسماعيل صديق، وزير المالية، وقف المفاوضات، حتى يقف على رأى حكومته، فوعد نوبار بوقفها ثمانى وأربعين ساعة، وفى الساعة الثامنة من مساء 18 نوفمبر 1875 أبرقت وزارة الخارجية البريطانية إلى قنصلها تطالبه إبلاغ الخديوى قبول حكومته شراء الأسهم بشروط معقولة، حسب ما ذكر الدكتور مصطفى الحفناوى فى كتابه «قناة السويس ومشكلاتها المعاصرة».
احمد مسعد قاسم
وأكد قاسم أن القنصل اتصل بالخديوى، ليقدم له عرض حكومته، لكن الخديوى اعتذر قائلًا: أنه يريد تحويل الديون السائرة إلى دين ثابت، ولذلك فإنه مضطر لتقديم الأسهم كضمان لهذا التحويل، ولكنه لا يريد أن يبيعها، فإذا كان ولابد من البيع فسيعطى الأفضلية للحكومة الإنجليزية، وفى الأيام التالية اشتدت الحالة سوءًا، واستحال رهن الأسهم، وعددها 177 ألفا و642 سهما فقبل «إسماعيل» بيعها، وأبرق قنصل إنجلترا إلى حكومته يبلغها بذلك يوم 23 نوفمبر، وبأن السعر مائة مليون فرنك «4 ملايين جنيه»، فجاء الرد فى نفس اليوم ببرقية شفرية بقبول الحكومة الإنجليزية، وأن بنك «روتشلد» بلندن تعهد بأداء الثمن فورًا، وتمت الصفقة وتحرر العقد الذى وقعه «إسماعيل صديق باشا» نائبًا عن الحكومة المصرية، والجنرال ستانتون القنصل البريطانى نائبًا عن حكومة بلاده يوم 25 نوفمبر 1875 لتبدأ «الكارثة الكبرى التى انتهت باحتلال الإنجليز لمصر بعد ذلك بأقل من سبع سنوات».