الحاجة إنصاف معمرة ١١٥ عامًا بالشرقية: طال عمري واشتد عنائي وأمنيتي الرحيل عن الدنيا (فيديو وصور)

كتب : ياسمين عزت

عينان غائرتان، في لحظة تنظران وكأنهما يترقبان شئ، يبدو أنهما يترقبان في شغف انقضاء آخر لحظات العمر، وأحيانًا يشردان حين إعادة شريط من الذكريات مر عليها نحو أكثر من قرن، تسكنان وجه حفر الزمان بصماته عليه، بتجاعيد تحكي كل واحدة منها رواية، ملامحها تحكي عن أطلال حسناء، وحديثها غير المفهوم أحيانًا، يؤكد طلاقة لسانها وعذوبة حديثها في أيام انقضى عهدها، ما تبقى من ذاكرتها يؤكد على أنها صاحبة شخصية قوية، وذكرياتها القديمة تذكر علاقات طيبة وود لأشخاص افتقدتهم، كلما ذُكِر اسم منهم، لوّحت بيديها في إشارة منها بأنه مات، لتؤكد بقولها: 'كان حكاية، وانتهت كتبها الموت'، راجية بأن يلحقها الله بهؤلاء، فكل من عاصرتهم رحلوا عن حياتنا الدنيا، لافتة إلى أنها افتقدت أفضالهم تلك التي لم تعد باقية حتى العهد الذي تحياه وتشعر فيه بالغربة، ما بين أشخاص لم يشبهوها وخصال ندى لها جبينها، وكابوس الوحدة الذي يقتلها مرات عديدة لكنه ورغم رجائها في الموت لم يقتلها.

تُدعى 'إنصاف'، أوراقها الرسمية تقول أنها تعيش في الدنيا منذ نحو ١١٥ عامًا، فجواز سفرها الذي أعدته في فترة سابقة لأداء فريضة الحج قبل أن تغادرها عافيتها، موثق به تاريخ ميلادها في عام ١٩٠٧، لكنها تؤكد أنها ولدت قبل هذا التاريخ بنحو أكثر من عقد من الزمان، تقيم في منزل من طابق واحد يشبه مساكن الأقزام في الأساطير، شيدته بمساعدة زوجها في سنوات بائدة، بالطوب اللبن وسقفه مغطى بأخشاب الأخشار وبالات قش الأرز وبعض حطب القطن المنهرئ، لا يرحمه المطر في الشتاء، أعانها بعض جيرانها وحفيدتها التي تخطت الخمسين بسنوات، بإدخال بعض وسائل الراحة مثل 'صنبور مياه' موصل بماتور كهربائي، وسلك كهربائي يضئ لها مصباح غرفتها الصغيرة، ويشعل الراديو الذي لا يسكت عن إذاعة محطة القرآن الكريم وفقراتها المؤنسة لوحدة تلك العجوز.

الحاجة إنصاف معمرة بالشرقية

تزورها يوميًا حفيدتها 'آمال' الخمسينية، رغم انشغالها في طاحونة الحياة، تقتطع من وقت أسرتها لتعمل على خدمة جدتها وتقديم يدا العون لها، ترهقها الجدة بالنسيان الذي يباغتها في الساعة الواحدة عشرات المرات، إذ تنساها وتسألها مرات عديدة من أنتِ؟ وتصرخ أحيانًا في وجهها متشبثة بذيل ردائها، ماذا سرقتي من منزلي، وعندما تتذكر أنها حفيدتها والتي بقيت من بين أحفادها تخدمها تبكي كطفلة وتحتضنها، وفي كل مرة تتذكر أبنائها الأربعة الذين مات منهم ابنتين وولد قبل أن يتمّوا الـ ٧٠ عامًا، ليتركوها وحيدة معمرة يأست من عد أرقام عمرها وحسابه إلا واحدة من بين أبنائها على قيد الحياة أصبحت جدة ولها عدد من الأحفاد لكنها تزورها على فترات متباعدة، لتبكي من جديد بصوت متحشرج راجية أشخاص غير معلومين، ربما تعلمهم جيدًا، بأن يغيثوها من الوحدة، وألا يتركوها وحيدة فهي تخاف من بقائها على هذا الحال تسمع صوت الصمت رغم إذاعة القرآن الكريم وأصداء أصواتها، تعاود الحديث في أشياء غير مفهومة، تتمتم بكلمات ربما هي الوحيدة التي تعرف فك ألغازها، لكنها فجأة تصرخ بعبارة ترددها كل دقائق معدودة: 'ربنا سايبني ليه، ليه خد كل رفقاتي وسايبني لوحدي في دنيا غريبة عني'، مشيرة إلى أنها أعدت كفنها واحتفظت به في خزانتها، لكنها تخرجه صدقة لشباب في عمر الورد، ماتوا حزانى فهم لم يفرحوا بشبابهم.. حسب وصفها، وتركوها حزينة عليهم فهم أحفاد جيرانها، غير أنها في لحظة تغبطهم أن الله توفاهم وأراحهم من عناء الدنيا، فأمنيتها ورجائها الرحيل عن الدنيا.

الحاجة إنصاف معمرة بالشرقية

وتمزح حفيدتها معها وتداعبها منادية إياها بـ'إنصاف'، لافتة إلى أنها لم تعاني من أمراض فالله عالم بحالها ووحدتها، كل ما في الأمر أنها تحتاج لـ'قطرة عيون' وقليل من الأدوية البسيطة، وتحب الأطعمة الشهية كما وتطلب منها 'المحشي' بجميع أنواعه وأصنافه، وكذلك البط واللحوم، لكنها تؤكد عليها بأن تجعله تمام نضجه مداعبة لها بأن أسنانها سبقتها إلى العالم الآخر، لا تعاني إلا من تَبِعات الشيخوخة، ولم تعد تحتملها قدماها ولم تطاوعها في الوقوف، فتلجأ إلى السير زحفًا، ولم تنسَ فروض الصلاة، تتوضأ دائمًا وتصلي وتدعو الله بأن لا يطيل عليها العمر أكثر من ذلك، وأن يحسن ختامها ويُدني أجلها ويريحها إلى جواره في جنة ورضوان، دون أن تثقل كاهل أحد، حتى أنها لم تطلب عون أحد، فكان ردها أنها تتقاضى معاشًا بقيمة ٧٠٠ جنيه، وإن لم يكن كافيًا فهي لم تحتاج لعون غير عون الله.