بعد مرور ما يقرب من نصف قرن، عاد الزمن ليقف احترامًا لمعلم مصري زرع العلم والإنسانية خارج حدود الوطن، فجاءه الحصاد وفاءً نادرًا من طلابه اليمنيين، الذين فاجأوه بزيارة مؤثرة إلى منزله بمحافظة سوهاج، في مشهد إنساني يختصر قيمة المعلم ودوره الحقيقي في بناء الأوطان.
يتحدث معلم الكيمياء في لقاء خاص لـ "أهل مصر" المعلم محمد عبد العال أحمد، الحاصل على بكالوريوس علوم – قسم الكيمياء – جامعة أسيوط عام 1979.
يقول: وبعد انتهاء فترة التجنيد، تقدم لمسابقة السفر إلى دولة الكويت، ليلتحق لاحقًا ببعثة تعليمية كويتية إلى دولة اليمن، وتحديدًا إلى مدينة عدن، قبل أن يتم توزيعه للعمل بمحافظة شبوة في مدرسة الشهيد عبد الرحمن القحطان.
هناك، لم يكن مجرد معلم كيمياء داخل معمل، بل كان أبًا ومرشدًا وصاحب رسالة، يدرّس لطلاب الصف الثالث الثانوي، ويغرس فيهم قيم الالتزام والاجتهاد والانتماء. مرت السنوات، وتفرّق الطلاب في دروب الحياة، لكن أثر المعلم ظل حيًا في وجدانهم.
وبعد مرور خمسين عامًا، قرر هؤلاء الطلاب رد الجميل، فاتصلوا بمعلمهم من القاهرة، وحددوا موعدًا لزيارته في منزله بصعيد مصر، ليقطعوا مسافات طويلة خصيصًا من أجل لقائه. أحدهم أصبح قاضيًا، والآخر نائبًا لمحافظ شبوة، والثالث رجل أعمال بدولة الصين، لكنهم جميعًا ظلوا طلابًا أوفياء أمام معلمهم.
أضاف الأستاذ محمد عبد العال إن لحظة اللقاء كانت مدهشة: “أول ما نزلوا من العربية ما عرفتهمش، وبعد ساعتين افتكرتهم.. وقلت له: إنت راعي الغنم، زي ما كنت بداعبهم في المعمل، ومن هنا عرفنا بعض وضحكنا وتأثرنا.”
استقبلهم في منزله، وتناولوا معًا وجبتي الغداء والعشاء، وقضوا ليلة واحدة فقط بسبب ارتباطاتهم، ورغم إصراره على بقائهم، رفضوا الإقامة، ليمازحهم قائلًا: “اقعدوا خمس سنين زي ما قعدت عندكم في اليمن خمس سنين.”
ويذكر المعلم القدير: “خمس سنوات في اليمن وما حسّتش إني غريب، واليوم يجوا من اليمن مخصوص مسافة كبيرة ده وفاء حقيقي.”
ويؤكد أن تلك الزيارة كانت لحظة فارقة في حياته: “أول ما شوفتهم حسيت إني عملت حاجة في المجتمع، وحسيت بقيمتي ووجودي، ولما لقيت إنهم بقوا ناس محترمة وليهم مكانة في المجتمع اليمني، ده أعظم تكريم لأي معلم.”
القصة ليست مجرد زيارة، بل شهادة إنسانية على أن التعليم رسالة لا تموت، وأن المعلم الحقيقي يظل حيًا في قلوب طلابه مهما طال الزمن، وأن الوفاء لا يعرف حدود الجغرافيا ولا تقادم السنين.