تتسارع وتيرة التوتر بين الولايات المتحدة وفنزويلا على نحو يعيد إلى الواجهة تاريخاً طويلاً من التدخلات الأميركية في أميركا اللاتينية، لكن الأزمة الراهنة تبدو الأشد تعقيداً منذ عقود، فمع ازدياد الضغوط الاقتصادية والعقوبات المشددة، وانتقال واشنطن من سياسة “الخنق الاقتصادي” إلى استخدام القوة العسكرية المحدودة واستهداف قوارب يُشتبه في ارتباطها بعمليات تهريب، أصبحت فنزويلا ساحة صراع مفتوح يتجاوز حدودها، ليرسم ملامح مواجهة جيوسياسية واسعة بين واشنطن من جهة، وروسيا والصين وإيران من جهة أخرى.
وفي ظل هذا المناخ المضطرب، جاء إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب إغلاق المجال الجوي الفنزويلي بالكامل ليشكّل نقطة تحوّل خطيرة، ويطرح أسئلة كبرى حول نوايا الولايات المتحدة، هل تسعى بالفعل لوقف تدفق المخدرات، أم لفرض حصار شامل يعجّل بإسقاط حكومة الرئيس نيكولاس مادورو؟ وهل تمهّد واشنطن لعملية عسكرية أوسع في الكاريبي، أم تستخدم القوة كورقة ضغط سياسية في مواجهة خصومها الدوليين؟
هذه التطورات فتحت الباب أمام مرحلة جديدة من الصراع، تتقاطع فيها اعتبارات الطاقة والأمن والدبلوماسية، وتتداخل فيها حسابات ترامب الداخلية مع رهانات النفوذ الأميركي في النصف الغربي من العالم.
إغلاق المجال الجوي في فنزويلا
في تصعيد غير مسبوق للتوتر بين واشنطن وكراكاس، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن المجال الجوي فوق فنزويلا ومحيطها “يجب اعتباره مغلقًا بالكامل”، في خطوة اعتبرتها فنزويلا 'خرقًا سافرًا للقانون الدولي' و'تهديدًا استعماريًا' يهدف لعزل البلاد وفرض حصار جوي عليها.
القرار الذي جاء عبر منشور مفاجئ أصدره ترامب على منصته، وضع شركات الطيران حول العالم أمام مأزق أمني وقانوني، وأثار سلسلة ردود فعل دولية غاضبة، بينما بدت فنزويلا في الساعات الأولى بعد القرار شبه معزولة جوياً، مع انخفاض حاد في حركة الطيران عبر أجوائها.
ترامب كتب قائلاً إن على شركات الطيران والطيارين وتجار المخدرات ومهربي البشر اعتبار المجال الجوي الفنزويلي 'محظورًا تمامًا'، في إشارة إلى أن القرار يحوي جانبًا أمنيًا وعسكريًا ضمن حملة أميركية متصاعدة في البحر الكاريبي تستهدف شبكات تهريب المخدرات.
إلا أن توقيت الإعلان وطريقته أثارا تساؤلات داخل المؤسسة الأميركية نفسها، إذ ذكرت مصادر إعلامية أن عددًا من المسؤولين علموا بالقرار من منشور ترامب نفسه، دون تحضير أو إخطار مسبق من المؤسسات العسكرية أو الدبلوماسية.
رد فنزويلي غاضب
وزارة الخارجية الفنزويلية ردّت ببيان شديد اللهجة، قالت فيه إن القرار الأميركي يمثل انتهاكًا صارخًا لسيادة دولة عضو في الأمم المتحدة ، ويخالف اتفاقيات الطيران المدني الدولي ويعد محاولة لخنق الاقتصاد الفنزويلي عبر عزل البلاد جويًا، ووصفت الحكومة الفنزويلية خطوة ترامب بأنها امتداد “لسياسات عدائية تهدف لتغيير النظام بالقوة.
الدول الحليفة لفنزويلا، بينها كولومبيا وبوليفيا، اعتبرت الخطوة 'غير قانونية'، ودعت منظمة الطيران المدني الدولي (ICAO) إلى التدخل.
سماء فنزويلا شبه فارغة
مواقع تتبع حركة الطيران أظهرت خلال ساعات من إعلان ترامب انخفاضًا كبيرًا في عدد الرحلات التي تعبر المجال الجوي الفنزويلي وتجنب شركات طيران دولية الطيران فوق فنزويلا، وإلغاء أو تحويل عدد من الرحلات التجاريةووصفت تقارير دولية المشهد بأنه عزلة جوية مؤقتة تم فرضها عمليًا، رغم غياب قرار رسمي ملزم من الأمم المتحدة أو منظمات الطيران.
هل يستهدف ترامب مكافحة المخدرات.. أم إسقاط حكومة مادورو؟
منذ عهد الرئيس دونالد ترامب، أعادت الولايات المتحدة تفعيل سياستها التدخلية التقليدية تجاه أمريكا اللاتينية، متذرعةً بشعارات استعادة الديمقراطية وإنهاء معاناة الشعب الفنزويلي، غير أن مراجعة أوسع للخطاب الرسمي والتقارير الصادرة عن مراكز الفكر القريبة من دوائر القرار في واشنطن تكشف عن مجموعة أعمق من المصالح الاستراتيجية التي حرّكت هذا التوجه، وجعلت من فنزويلا ساحة اختبار جديدة لمعادلة القوة الأمريكية في القارة.السيطرة على أكبر احتياطي نفطي في العالم
تمتلك فنزويلا ثروة نفطية استثنائية تُقدر بأنها الأكبر عالميًا، وهو ما يجعلها موردًا استراتيجيًا حاسمًا في توازنات الطاقة الدولية، في هذا السياق، رأت واشنطن فرصة تاريخية لإعادة إدماج هذا المورد الهائل ضمن المنظومة الغربية، عبر إقامة نظام صديق في كاراكاس يتيح عودة الشركات الأمريكية والأوروبية إلى قطاع النفط الذي طالما هيمنت عليه الدولة،وفي تقرير صادر عن المجلس الأطلسي أوصى بـ'إعادة رؤية الشركات الأمريكية في قطاع الطاقة الفنزويلي'، وبـ'تحييد' النفوذ الروسي والصيني والإيراني هناك.
مواجهة النفوذ الروسي والصيني
ترى واشنطن في حكومة نيكولاس مادورو بوابة مفتوحة أمام خصومها الدوليين، فخلال السنوات الأخيرة، توسعت موسكو وبكين في استثمارات الطاقة والتعاون العسكري مع كاراكاس، ما اعتُبر تحديًا مباشرًا للنفوذ الأمريكي في النصف الغربي من الكرة الأرضية.
في عام 2019، أعلن جون بولتون، مستشار الأمن القومي في إدارة ترامب، أن مبدأ مونرو الذي صاغته الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر قد عاد إلى الحياة، في إشارة إلى استعادة واشنطن لدورها القديم كـ'شرطي القارة'، بحسب مجلة فورين بوليسي.
وهذا يعني أن الولايات المتحدة لن تسمح لقوى خارجية كروسيا والصين بالتواجد والتحكم في فنزويلا وغيرها من دول المنطقة. في ظل إدارة ترامب، تصاعدت اللهجة العدائية ضد الحكومة الفنزويلية إلى مستوى أكثر تطرفًا وتهديدًا، إذ تحدث مسؤولون في الإدارة عن 'عمل عسكري'، وأدانوا فنزويلا إلى جانب كوبا ونيكاراغوا بوصفها جزءًا من 'ثالوث الطغيان'.
لماذا يصطدم ترامب بأمريكا اللاتينية؟
بلغ التصعيد ذروته في 2 سبتمبر 2025 حين نفذت واشنطن ضربة صاروخية استهدفت قارباً فنزويلياً اشتُبه في تورّطه بتهريب المخدرات، ما أسفر عن مقتل 11 شخصاً كانوا على متنه، ولم تقدم الولايات المتحدة أي أدلة ملموسة على مزاعمها، بينما وصفت كاراكاس العملية بأنها عدوان مباشر على سيادتها، مؤكدةً أن الهجوم وقع في المياه الدولية جنوب البحر الكاريبي، قبالة السواحل الفنزويلية، منذ تلك اللحظة، تسارعت وتيرة التوتر وبدأت عمليات تحشيد عسكري متبادل على الحدود، في مشهدٍ لم تعرفه العلاقات بين البلدين منذ عقود.
وفي 15 و19 سبتمبر2025، استهدفت الولايات المتحدة زورقين آخرين، فقُتل ستة أشخاص إضافيون. وفي أوائل أكتوبر، هاجم الجيش الأمريكي قارباً آخر قبالة الساحل الفنزويلي، معلناً عن مقتل أربعة أشخاص على متنه. وأبلغ ترامب لاحقاً الكونجرس بأن الولايات المتحدة في 'نزاع مسلح' مع كارتلات المخدرات في المنطقة، وبحسب مجلة ذا نيشن الأمريكية، كانت عمليات القتل هذه متعمدة، ففي اليوم الأول من ولايته الثانية، وقّع ترامب أمراً تنفيذياً يصنّف كارتلات المخدرات في أمريكا اللاتينية كمنظمات إرهابية.
وكشفت صحيفة نيويورك تايمز أن ترامب 'وقّع سراً توجيهاً للبنتاجون لبدء استخدام القوة العسكرية ضد بعض كارتلات المخدرات في أمريكا اللاتينية'، مشيرةً إلى 'نقاشات داخلية حساسة' حول ما إذا كان استخدام الجيش لقتل مدنيين يُشتبه بانتمائهم للكارتلات يُعد 'جريمة قتل'.
وبحسب وكالة أسوشيتد برس، أثار هذا التوجه موجة انتقادات داخل الكونغرس من كلا الحزبين؛ إذ طالب بعض الجمهوريين بمزيد من الشفافية حول المبررات القانونية والحدود العملياتية للضربات، بينما اعتبر الديمقراطيون أن هذه السياسة تنتهك القانون الأمريكي والدولي وتكرّس نموذج 'الحرب الدائمة' خارج الحدود.
وفي أكتوبر 2025، صوت مجلس الشيوخ على مشروع قرار لتقييد صلاحيات الحرب ومنع الإدارة من تنفيذ أي ضربات دون تفويض صريح من الكونجرس، إلا أن القرار فشل في المرور.
السيناريوهات المقبلة
ذكرت شبكة CNN أن التوتر بين واشنطن وكاراكاس يشهد تصاعداً ملحوظاً مع تزايد مؤشرات إدارة ترامب على إمكانية اللجوء إلى وسائل عسكرية للضغط على الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو بهدف دفعه إلى التنحي عن السلطة.
ورغم أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لم يُصرح صراحة بأنه يسعى إلى إطاحة مادورو، فإن تصريحاته ومواقف عدد من كبار المسؤولين في إدارته أوحت بأن الخيار العسكري ظل مطروحاً ضمنياً على الطاولة منذ بدايات الأزمة.
لكن العديد من المحللين من خلال الشبكة الأمريكية أشاروا إلى أن واشنطن صعدت خطواتها ضد مادورو من العقوبات النفطية إلى دعم البحرية الأمريكية في الكاريبي بهدف واضح هو تغيير النظام في كاراكاس.
ومع ذلك، أفادت تقارير عديدة أن سياسة 'الضغوط القصوى' التي انتهجها ترامب أضعفت الاقتصاد وزادت معاناة المدنيين وأدت إلى ارتفاع الهجرة، لكنها على الأرجح لن تقوّض قبضة مادورو على السلطة.
السبب أن نظام مادورو تمكن من تكييف أوضاعه بالاعتماد على حلفاء غير غربيين (كالصين وروسيا وإيران) وأحكم سيطرته على الجيش والأجهزة الأمنية، مما يجعل احتمال انهياره تحت وطأة العقوبات منفردة ضعيفاً. وبالفعل، لم تسفر العقوبات حتى الآن عن الانشقاق المنشود في صفوف النظام، بل ازدادت عزلة فنزويلا واقترابها من خصوم أمريكا وفقاً لستراتفور.
بالإضافة إلى ذلك، حذر العديد من المحللين من أن أي تدخل عسكري أمريكي مباشر في فنزويلا سيكون محفوفاً بالمخاطر، حيث تمتلك فنزويلا قدرات دفاع جوي روسية الصنع لا يُستهان بها، وأي ضربة جوية أمريكية قد تستلزم تدمير هذه الدفاعات أولاً، مما قد يجرّ إلى مواجهة أوسع مع وجود مستشارين روس على الأرض، كما أن ضرب أهداف داخل فنزويلا قد يدفع الجيش الفنزويلي للرد ويشعل نزاعاً طويلاً وربما فوضى شبيهة بالسيناريو الليبي، كما أشارت الفورين بوليسي.
وتذهب تحليلات إلى أن واشنطن ربما تعتمد استراتيجية التلويح بالقوة لدفع الداخل للانتفاض بدلاً من الغزو الصريح. فحتى الآن، تجنبت امريكا بعناية استهداف أي هدف قد يزعزع استقرار البلاد أو يهدّد بإشعال صراع مسلح داخلي. فالأسبوع الماضي، أبقت مدمّرة البحرية USS Jason Dunham رباطة جأشها عندما حلّقت فوقها طائرتان من طراز F-16 فنزويليتان مرتين خلال أقل من أربع وعشرين ساعة، ما يوحي حتى الآن بأن البيت الأبيض حريص على تفادي الانخراط المباشر مع الجيش الفنزويلي.
ويذهب التحليل في مجلة الفورين بوليسي إلى أن ترامب، الذي رفع منسوب التهديدات ضد كاراكاس، قد يسعى في النهاية إلى تسوية واقعية بدل التدخل المباشر، خصوصاً بعد أن أبدى مادورو استعداده للتفاوض ووجّه رسائل مباشرة إلى واشنطن، هذه التسوية المحتملة يمكن أن تُعيد العمل بمبادرة عام 2020 المعروفة بـ 'إطار الانتقال الديمقراطي'، التي تربط تخفيف العقوبات بإصلاحات تدريجية وتقاسم للسلطة.
برأي الخبراء، يقف ترامب أمام خيارين استراتيجيين: إما استخدام الانتشار العسكري في الكاريبي كورقة ضغط لدفع النظام نحو إصلاحات ديمقراطية تضمن لواشنطن نفوذها ومصالحها في الطاقة والهجرة والأمن الإقليمي، أو الانزلاق نحو عمل عسكري أحادي قد يفتح الباب لفوضى إقليمية جديدة، تفاقم محنة الشعب الفنزويلي، إذ أدت العقوبات الأمريكية إلى 'انهيار إنتاج النفط وتدهور الاقتصاد، ومنعت الحكومة من الحصول على العائدات اللازمة لاستيراد الغذاء والدواء'، مما تسبب في وفاة العديد من المدنيين نتيجة نقص الأدوية.