لم يكن هذا الجاسوس يسجل الأخبار ويرسلها لمن يعمل لحسابهم، ولم يكن يتلصص على المنشآت العسكرية والاقتصادية ليرسل عنها تقارير، بل اخترق أعلى مؤسسة سيادية في البلاد، لقد اخترق القصر الجمهوري، وكان مصدره رئيس الجمهورية شخصيا.
الجاسوس الشهير علي العطفي، كان المدلك الخاص للرئيس المصري الراحل أنور السادات، وظل على مدى سبع سنوات داخل القصر الجمهوري يعمل لحساب الموساد الإسرائيلي من دون أن يكتشفه أحد، ومن هنا كانت قصته.
في بداية الثمانينات من القرن الماضي ظهر في مصر كتاب يحمل اسم علي العطفي، وكانت تلك أول مرة يخرج فيها اسم العطفي الى الرأي العام، وجاء في الكتاب المنسوب إليه أنه هو الذي قتل الرئيس جمال عبدالناصر، على أساس أنه كان مدلكه الخاص، وتسبب في موته عن طريق تدليكه بكريم مسمم، وتغلغل هذا الدهان في جسده ببطء ثم قتله، وذلك معناه أن المخابرات الإسرائيلية كانت اخترقت منزل عبدالناصر وفراشه.
تسببت الإشاعة في حدوث بلبلة في مصر، زاد من حدتها ما قاله الزعيم الصيني شوان لاي لأول وفد مصري زار الصين بعد وفاة عبدالناصر، وكان هذا الوفد برئاسة السيد حسين الشافعي نائب رئيس الجمهورية في ذاك الحين، وقال الشافعي في مذكراته التي نشرها قبل 20 عامًا، إن لاي قال لهم: لقد كان عندكم رجل ثروة لكنكم فرطتم فيه، وفهم أعضاء الوفد المصري أنه كان يقصد ترك أمر علاج عبدالناصر للاطباء الروسيين الجنسية، فقد كان يتلقى العلاج الطبيعي في مصحة تسخالتوبو السوفيتية لمدة عام يدلكونه، وبعد ظهور الكتاب تذكر الجميع تلك الواقعة، وأنه من الممكن أن يكون السوفيت دسوا له نوعا من السموم في المراهم التي كانوا يعالجونه بها.
وأيقن الرأي العام وقتها أن عبدالناصر مات مقتولا، لكن ليس بأيدي السوفيت إنما بيد الموساد الإسرائيلي عن طريق عميلهم علي العطفي،وراحت الصحف وقتها تفيض في نشر كل ما يتعلق بالموضوع، وظلت الشائعة قائمة حتى تولى السيد سامي شرف مدير مكتب عبدالناصر ووزير شؤون رئاسة الجمهورية، الرد عليها، ونشر على لسانه في عدد جريدة الوفد رقم 1085 الصادر في 9 ديسمبر 2004 أن العطفي لم يتعامل مع عبدالناصربأي شكل سواء مباشر أو غير مباشر، وتحدى شرف أن يكون اسم العطفي مدرجا في سجلات الزيارة الخاصة بالرئيس والمحفوظة برئاسة الجمهورية، ثم تصدت أقلام أخرى ودحضت ما جاء في الكتاب المجهول الذي نشر منسوبا الى العطفي وهو في السجن، واتضح أن الاخير جند في الموساد بعد موت عبدالناصر، كذلك خلت أوراق القضية التي تحمل رقم 4 لسنة 1979 تماما من ذكر أي علاقة له بالرئيس عبد الناصر.
انتشار الإشاعة تسبب فيه أن العطفي حين اكتشف أمره أحيل الى المحاكمة في تكتم شديد، فقد أصدر السادات تعليمات مشددة للإعلام بالتكتم على الخبر الفضيحة، وآثر السادات أن يتجرع مرارة الضربة بمفرده، ومن هنا كثرت الشائعات والأقاويل حول حقيقة العطفي ودوره بعد انكشاف أمره بعد وفاة الرئيس السادات.
الجاسوس علي خليل العطفي، من مواليد حي السيدة زينب في القاهرة عام 1922، لم يحصل سوى على الشهادة الإعدادية فحسب، وبعدها عمل كصبي بقال، ثم عامل في أحد الأفران، ثم عامل في إحدى الصيدليات، ثم انتهى به المطاف للعمل في مهنة مدلك، وكانت مهنة غير منتشرة في ذلك الوقت، ولا يهتم بها سوى الطبقة الأرستقراطية.
عمل العطفي، كمساعد لأحد المدلكين الأجانب، وبعد قيام الثورة رحل معظم الأجانب من مصر، فكون ممارسي مهنة التدليك من الأجانب وكثر الطلب عليه وازدحمت أجندة مواعيده وراح يتنقل من قصر إلى فيللا، وكثر اختلاطه بعلية القوم، وأعطى نفسه لقب خبير علاج طبيعي، وكان هذا المصطلح حديث العهد في مصر، فلما ظهرت الحاجة لوجود العلاج الطبيعي في مصر وجد لنفسه مكانا بين رواده، فانضم الى قائمة مدربي العلاج الطبيعي في معاهد التربية الرياضية في مصر، وبدأت الدولة ترسل خريجي تلك المعاهد في بعثات تدريبية الى أوروبا والولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، فعاد هؤلاء إلى مصر وهم يحملون درجات الدكتوراه.
عام 1963 وجد العطفي اسمه في كشوف من تمت الموافقة على سفرهم الى الولايات المتحدة الأمريكية، فوجد أن أمامه فرصة ذهبية للوصول الى أعلى المناصب لو حصل على الدكتوراه، لكن كيف وهو ليس معه سوى الشهادة الإعدادية، بحسب اعترافاته في ما بعد، لكنه استطاع الحصول عليها من رجال الموساد في سفارة إسرائيل في أمستردام، حيث عاش فترة في هولندا وتزوج منها وحصل على الجنسية الهولندية وأصبح هناك مبرر لسفرياته الكثيرة والتي كانت تتم كغطاء لنشاطه التجسسي.
وبسبب شهادة الدكتوراه المزيفة عمل أستاذا في معاهد التربية الرياضية، وانتخب رئيسا للاتحاد المصري للعلاج الطبيعي، وكان أول عميد للمعهد العالي للعلاج الطبيعي في مصر منذ إنشائه عام 1972 حتى قبض عليه في 18 مارس 1979.
ارتبط العطفي من خلال عمله بشبكة علاقات قوية بكبار المسئولين في مصر، وكان في مقدمة أصدقائه السيد كمال حسن علي أحد من تولوا رئاسة جهاز المخابرات العامة المصرية، ورئاسة الوزراء في مصر، والسيد عثمان أحمد عثمان صهر السادات وصاحب أكبر شركة مقاولات في مصر وقتها، وكان طريقه لتلك الصداقات صديقه المقرب الكابتن عبده صالح الوحش نجم النادي الأهلي والمدير الفني للمنتخب الكروي المصري وقتها، الذي جعله المشرف على الفريق الطبي للنادي الأهلي، فتعددت علاقاته حتى أصبح المدلك الخاص لرئيس الجمهورية.
كشفت التحقيقات التي أجريت مع العطفي أنه لم يحصل سوى على الشهادة الإعدادية فحسب، وأنه من سعى الى المخابرات الإسرائيلية بنفسه عن طريق سفارتهم في هولندا، وتبين لرجال الموساد أنه شخص ليس له عزيز، وصديقه الوحيد في الدنيا هو المال، وبالتالي تمت الموافقة على اعتماده كعميل مخلص لهم، وبعد الموافقة على تجنيده تم الاتصال به من القاهرة عن طريق أحد عملاء الموساد وطلب منه سرعة السفر إلى أمستردام، وبعد أربعة أيام كان هناك من دون أن يعرف لماذا طلبوه هناك، وظل يتجول في شوارعها حتى وجد فتاة تصطدم به حاول مساعدتها وجدها تناديه باسمه وتطلب منه قراءة الورقة التي وضعتها في جيب معطفه من دون أن يشعر ثم اختفت، ومد العطفي يده لجيب معطفه وقرأ الورقة التي كان فيها عنوان، وعندما وصل الى بداية الشارع الذي فيه العنوان المذكور وجد سيارة سوداء تقف بجواره ويطلب منه سائقها أن يركب بسرعة، وانطلقت به السيارة ليفاجأ بالفتاة التي أعطته الورقة بجواره.
توقفت السيارة بالعطفي أمام إحدى البنايات حيث قابل إيلي برجمان ضابط الموساد المكلف به، وأخبره برجمان بأنه سيخضع لدورات تدريبية مكثفة، وراي فيه الضابط صيدا مختلفا لهذا طرح فكرته على رئيس الموساد الا وهي أن يكون بين أفراد طاقم الرئيس الطبي كمدلك خاص.
عاد العطفي إلى مصر ولم يكن يعرف شيئا عما خططه برجمان له، وخلال المرات التي سافر فيها إلى هولندا كان يتلقى تدريباته في أرقى المستشفيات التي تقوم بالعلاج الطبيعي، حتى أصبح بالفعل خبير تدليك، وتوالت عليه الدعوات من جامعات عدة ليحاضر فيها في تخصصه، وطاردته الصحف المصرية والأجنبية لإجراء حوارات معه، وفي تلك الأثناء افتتح في مصر أول معهد للعلاج الطبيعي، واختير العطفي ليكون أول عميد له، وذات يوم بينما هو في مكتبه بالمعهد فوجىء بمكتب رئيس ديوان رئيس الجمهورية يطلبه، وخرج العطفي من المقابلة وهو لا يصدق أنه أصبح أحد أطباء رئيس الجمهورية.
امتد عمل العطيفي أيضا الى جميع أفراد أسرة الرئيس، وأصبح مقربا جدا من السادات، فهو الرجل الذي يدخل عليه وهو شبه عار ويسلم نفسه له، وتدريجيا اتسع نفوذه وزادت صلاحياته، ووصل الأمر إلى أن قاعة كبار الزوار في مطار القاهرة كانت تفتح له، وبالتالي كان من المستحيل أن يتم تفتيش حقائبه، ولم يدخر العطفي مجهودا في إمداد الموساد بكل ما يتاح أمامه من معلومات، وشمل ذلك كل ما يدور في القصر الجمهوري، من مقابلات وحوارات، اطمأن العطفي تماما إلى أنه من المستحيل كشف أمره، وبدأ يتخلى عن حرصه.
كثرت سفريات العطفي الى خارج مصر بحجج مختلفة، وبعدما كان يعمد لختم جوازه بتأشيرات مزورة لبلاد لم يزرها أصبح لا يهتم بذلك، بل يخرج من البلاد ويدخل وفي حقيبة يده ما يدينه بالتجسس، وكان تخليه عن حرصه هذا هو سبب اكتشافه، لأن في اخر زيارة له الى أمستردام، قبل القبض عليه، وصلت به الجرأة أن يتوجه إلى مقر السفارة الإسرائيلية على قدميه أكثر من مرة، وهو الشخص الذي أصبح من الشخصيات العامة المعروفة، وفي إحدى تلك الزيارات التقطته عيون المخابرات المصرية، وتم تصويره بصحبة عدد من رجال الموساد المعروفين لضباط المخابرات المصرية، وأرسلت الصور إلى القاهرة.
وكانت أجهزة المخابرات المصرية على مدى أشهر عدة سابقة لتلك الواقعة في حيرة شديدة بسبب يقينها من وجود جاسوس مجهول في مكان حساس ولا تعرف من هو، وكان لدى المخابرات المصرية معلومات مؤكدة بأن هذا الجاسوس المجهول ينقل لإسرائيل أسرارا دقيقة عن شئون رئاسة الجمهورية وعن حياة الرئيس الخاصة، فتم تخصيص ملف في المخابرات المصرية باسم الجاسوس المجهول تشير بياناته إلى أنه قريب جدا من دائرة صنع القرار السياسي، فهو يبلغ إسرائيل أولا بأول كل تحركات الرئيس، وتم عرض الملف على الرئيس شخصيا وهنا امر السادات باطلاعه على اي جديد يطرأ على الملف فورا، ثم صدرت أوامر عليا بإنهاء الملف والقبض على العطفي.
صدرت الأوامر لضابط المخابرات المصري في هولندا، بإحكام الرقابة على العطفي وضرورة ألا يشعر بذلك كي لا يلجأ إلى السفارة الإسرائيلية، أو تتدخل السلطات الهولندية وتمنع تسليمه لمصر، وعندما توجه العطفي الى شركة الطيران ليحجز تذكرة عودة الى مصر، تلقى ضابط المخابرات أمرا بأن يعود معه على الطائرة نفسها ويقبض عليه في المطار بمجرد نزوله من الطائرة، وفي 22 مارس 1979 أقلعت الطائرة من مطار أمستردام وعلى متنها ضابط المخابرات الذي تأكد من وجود اسم العطفي على قائمة الركاب في الرحلة ذاتها، وبعد هبوط الطائرة على أرض مطار القاهرة وقف ينتظر نزول العطفي، وكانت المفاجأة الصاعقة أن العطفي اختفى، ثم بالتحري ثبت أنه غادر في طائرة أخرى، وكان لابد من وضع خطة أخرى للقبض عليه، وفي صباح اليوم التالي تلقى العطفي اتصالا من صحفي في مجلة آخر ساعة أخبره فيها بأنه يريد إجراء حوار معه وتحدد له موعد التاسعة مساءا، وقبل الموعد المحدد بنصف ساعة كان حي الزمالك بالكامل محاط بسياج أمني دون أن يشعر أحد نظرا الى خطورة المهمة وحساسيتها، ووصل رجال المخابرات إلى باب شقة العطفي التي تشغل دورا كاملا بالعمارة المملوكة له ذاتها ويسكنها عدد من علية القوم، ففتحت الشغالة لهم باب الشقة لتصحبهم إلى الصالون، لكنها فوجئت بالعميد محمد نسيم يقتحم غرفة المكتب ليواجه العطفي الذي كان جالسا على مقعده الوثير ينتظر ضيفه الصحفي، وبرغم المفاجاة إلا أنه حاول أن يبدو متماسكا، فأعطى نسيم أوامره لرجاله بأن ينتشروا داخل المنزل، وأظهر نسيم أوامر النيابة بالقبض عليه وتفتيش منزله وأطلعه عليها، وذلك لاتهامه بالتخابر مع دولة أجنبية، فتصنع العطفي الذهول والدهشة مما يسمع، وبدا يتحدث بنبرة تهديدية لنسيم يحذره فيها من مغبة ما يقوم به، لكن الرجل الذي يعي عمله جيدا واصل مهمته، وقطع ذلك حضور شريف ابن العطفي الطالب بكلية الهندسة، الذي فوجئ بالمشهد المهين لوالده.
انهار العطفي وبدأ يقص حكايته لكنه استخدم ذكاءه وأدخل كثيرا من الحكايات الكاذبة في قصته، ولاحظ رجال المخابرات ذلك، فتركوه يحكي ما يريد، ثم سألوه عن طريقة اتصاله بالمخابرات الإسرائيلية فقال بأن ذلك يتم عن طريق خطابات مشفرة يقوم بإرسالها بالبريد، وكانت تلك هي أول الأدلة المادية على تورطه في التجسس، وامتدت الجلسة حتى السابعة من صباح اليوم التالي، وأشار نسيم لاثنين من رجاله بمصاحبة الزوجة وولديه لجمع حاجاتهم ومغادرة المكان، وكانت الساعة التاسعة صباحا حينما خرج العطفي بصحبة رجال المخابرات.
توالت اعترافات العطفي لأجهزة التحقيق، وأثناء التحقيق معه أصدر المدعي العام الاشتراكي في مصر قرارا بمنع العطفي وزوجته وأولاده من التصرف في ممتلكاتهم، ثم أصدرت محكمة القيم مصادرة أموال وممتلكات العطفي وأسرته لصالح الشعب، وكانت ثروته أثناء القبض عليه تقدر بمليونين ومائتي ألف جنيه، أحيل العطفي الى محكمة أمن الدولة العليا حيث أصدرت حكمها عليه بالإعدام شنقا، لكن الرئيس السادات خفف الحكم إلى الأشغال الشاقة لمدة 15 سنة، ورفض الإفراج عنه أو مبادلته على رغم الضغوط السياسية التي تعرض لها وقتها من رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيجن الذي تعددت لقاءاته بالسادات خلال تلك الفترة، وهما يعدان لاتفاقيات السلام بين مصر وإسرائيل.
بعد صدور الحكم علي العطفي، قام الابن الأكبر له بنشر إعلان مدفوع الأجر على مساحة كبيرة من صحف عدة يعلن فيه لشعب مصر أنه يتبرأ من والده ويستنكر خيانته لمصر، وبعد اغتيال السادات تقدم العطفي بالتماسات عدة له بطلب الإفراج عنه لظروف صحية، لكن مبارك رفض الموافقة على تلك الطلبات التي كان آخرها عام 1987، وقيل إنه أصيب بالعمى وهو في سجنه الذي بقي فيه حتى وفاته في الأول من ابريل عام 1990، ورفضت أسرته استلام جثته، فدفن في مقابر الصدقة.