"لقد تعودنا معًا فى أوقات النصر وفى أوقات المحنة.. فى الساعات الحلوة وفى الساعات المرة، أن نجلس معًا، وأن نتحدث بقلوب مفتوحة، وأن نتصارح بالحقائق".. بهذه الكلمات التي تحمل كل معاني الحب والتفاهم بين الرئيس وشعبه، فجر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قنبلة من الحزن داخل قلوب المصريين، فبعد أن صرح بما داخله من حب وخوف على الشعب المصري، أعلن خبر تنحيه عن الرئاسة.
وجاء قرار التنحي عن رئاسة جمهورية مصر العربية، عقب الهزيمة التي تلقتها مصر في حرب 1976 أو حرب الستة أيام كما يطلق عليها، ولكن هذا القرار كان له رد فعل قوي من جانب الشعب المصري والعالم العربي.
وترصد "أهل مصر" في التقرير التالي، 5 مشاهد تلخص يوم التنحي..
1- أجزاء من خطاب التنحي:
شهد خطاب التنحي على حزن وأمل الزعيم الراحل عبد الناصر في آن واحد، وظهر ذلك في قوله: "لا نستطيع أن نخفي على أنفسنا أننا واجهنا نكسة خطيرة خلال الأيام الأخيرة، لكنى واثق أننا جميعًا نستطيع - وفي مدة قصيرة - أن نجتاز موقفنا الصعب، وإن كنا نحتاج في ذلك إلى كثير من الصبر والحكمة والشجاعة الأدبية، ومقدرة العمل المتفانية. لكننا - أيها الإخوة - نحتاج قبل ذلك إلى نظرة على ما وقع، لكى نتتبع التطورات وخط سيرها في وصولها إلى ما وصلت إليه".
وأضاف: "إذا كنا نقول الآن أن ضربة العدو جاءت بأكثر مما توقعناه، فلابد أن نقول في نفس الوقت وبثقة أكيدة إنها جاءت بأكبر مما يملكه، مما أوضح منذ اللحظة الأولى أن هناك قوي أخرى وراء العدو، جاءت لتصفى حساباتها مع حركة القومية العربية، ولقد كانت هناك مفاجآت تلفت النظر، منها أن العدو الذى كنا نتوقعه من الشرق ومن الشمال جاء من الغرب، ولعدو غطى فى وقت واحد جميع المطارات العسكرية والمدنية فى الجمهورية العربية المتحدة، ومعنى ذلك أنه كان يعتمد على قوة أخرى غير قوته العادية".
وجاءت لحظة تصريح عبد الناصر بالتنحي، فقال: "وتطبيقًا لنص المادة 110من الدستور المؤقت الصادر فى شهر مارس سنة 1964 فلقد كلفت زميلي وصديقي وأخي زكريا محيي الدين بأن يتولى منصب رئيس الجمهورية، وأن يعمل بالنصوص الدستورية المقررة لذلك، وبعد هذا القرار فإننى أضع كل ما عندى تحت طلبه، وفى خدمة الظروف الخطيرة التى يجتازها شعبنا".
2- محمد حسنين هيكل:
الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل هو الرمز السري لخطاب تنحي الرئيس الراحل عبد الناصر، لأنه هو من كلفه بكتابة الخطاب قبل الأعلان عن التنحي بساعات قليلة، وجاء السيناريو كالآتي: بعد أن اتفق عبد الناصر مع المشير عبد الحكيم عامر على تقديم استقالته للشعب، وأن يكلف بدران رئيسًا مؤقتًا لمصر، أجرى أتصالًا فوريًا بهيكل في مكتبه بصحيفة الأهرام طالبه بكتابة خطاب التنحي له.
وصف هيكل مكالمة الرئيس الراحل له ومطالبته بكتابة خطاب التنحي "بالانفجار"، قائلًا: " بدأ صوته لأول وهلة على التليفون مثقلًا بهموم الدنيا كلها، وقد سألني ما الذي أقترح عمله، وكان رأيي أنه لم يبق أمامه غير الاستقالة وكان رده بالحرف: غريبة هذا ما فكرت فيه تمامًا، وكان ردي أنه ليس هناك خيار آخر".
وبعد هذه المكالمة ظل هيكل طيلة الليل يكتب في مسودات عديدة للخطاب، وفي الصباح الباكر، توجه إلى منزل عبد الناصر ومعه الخطاب، وقال هيكل في هذه اللحظة: " الذي أرهقتني سطوره أكثر من أي شيء آخر كتبته من قبل، وظننت أنني حفظت العبارات والألفاظ من كثرة ما راجعتها وغيرت فيها وبدلت". ووصف هيكل تعبيرات وجه عبدالناصر في ذلك الوقت: "أضاف إلى عمره 10 سنوات على الأقل، كان مرهقًا بشكل يصعب وصفه، وكانت في عينيه سحابة حزن لم أرها من قبل".
3- سكرتير جمال عبد الناصر:
كشف سامي شرف، أحد مؤسسي جهاز المخابرات العامة والسكرتير الشخصي للراحل عبد الناصر، أن خطاب التنحي لم يعلم به أحد من القيادات، وليس هناك إلا هو والكاتب الصحفي الكبير هيكل من كانوا على علم بأمر الخطاب، موضحًا أن ذلك يهدم كل ما قيل عن دور أجهزة الدولة في تعبئة الجماهير لدفع ناصر إلي العودة عن قراره لأنها ببساطة لم تكن تعلم شيئًا عن قرار التنحي قبل وقوعه.
4- رد الفعل الشعبي والعربي:
بعد انتهاء عبد الناصر من إلقاء قرار التنحي، خرج المصريين من الدلتا والصعيد، والمدن والقري، والحقول والمتاجر والمصانع والجامعات والمدارس، ومن القوات المسلحة إلى الشوارع لا تردد إلا جملة واحدة: "لا نرتضى غير عبد الناصر رئيسًا للجمهورية.. لا نرتضى غير عبد الناصر رئيسًا للجمهورية وزعيمًا وقائدًا ومعلمًا".
أما عن الصعيد العربي، فقد خرج الشعب العربى كله من أقصي المحيط إلى أقصى الخليج يعبر عن تمسكه المطلق بقيادة البطل جمال عبد الناصر.
وأوضح هيكل أنه لم يشاهد رد فعل شعبي كما شاهد الشعب المصري بعد التنحي، فقال: يقول هيكل: "أنا بيتى على ضفة النيل عند ناصية كوبرى الجلاء وأنا أستطيع أن أرى من شرفة بيتى كوبرى الجلاء، كان فيه ناس عددها بيزيد ومظاهرات بتطالب الرئيس بالعودة وإنه لا يمكن، وناصر ناصر ناصر إلى آخره.. والعالم العربى كله فى بيروت وفى العالم الخارجى، فيه أشياء غريبة قوى بتحصل وإنه فيه تقريبًا ثورة شعبية، فيه جنون فى الشارع العربى".
5- بيان الرجوع عن التنحي:
بعد كل ردود الفعل التي أعقبت خطاب التنحي، لم يصمد عبد الناصر في هذا القرار، فقرر الرجوع مرة أخرى إلى الرئاسة، وتولي أنور السادات مهمة نقل بيان عودة عبد الناصر إلى الرئاسة.
وجاء نص العودة نقلًا عن عبد الناصر كالتآلي: "لقد كنت أتمنى لو ساعدتنى الأمة على تنفيذ القرار الذى اتخذته بأن أتنحى، ويعلم الله أننى لم أصدر فى اتخاذ هذا القرار عن أى سبب غير تقديرى المسئولية متجاوبًا مع ضميرى ومع ما أتصور أنه واجبى، وإنى لأعطى لهذا الوطن راضيًا وفخورًا كل ما لدى حتى الحياة إلى آخر نفس فيها. إن أحدًا لا يستطيع ولا يقدر أن يتصور مشاعرى فى هذه الظروف إزاء الموقف المذهل الذى اتخذته جماهير شعبنا وشعوب الأمة العربية العظيمة كلها فى إصرارها على رفض قرارى بالتنحى منذ أعلنته وحتى الآن، ولا أعرف كيف أفي لذلك، وكيف أعبر عن عرفاني له"، مضيفًا " والآن أيها الأخوة المواطنون فى كل مكان أيديكم معى، ولنبدأ مهمتنا العاجلة، وليمنحنا الله جميعًا تأييده وهداه".