اعلان

ماذا بعد انقلاب القصر في تركيا؟

كتب : بكر صدقي

بعيداً عن البكائيات الزائفة لبعض معارضي الحكم في تركيا، على إزاحة رئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو من منصبه، بوصفها «انقلاباً داخل القصر» على الإرادة الشعبية التي أوصلت فيلسوف «العمق الاستراتيجي» إلى سدة المنصب التنفيذي الأول في البلاد، فإن ما حدث لم يكن مفاجئاً، بعدما ظهرت أزمة حقيقية في النظام السياسي منذ صعود أردوغان إلى منصب رئيس الجمهورية، في شهر أغسطس 2014.

ففي ذلك التاريخ حدث شيء غير مسبوق في تاريخ هذا النظام السياسي: لم يترك أردوغان لحظة فراغ واحدة بين تركه لرئاسة الوزراء واستلامه لرئاسة الجمهورية، مما دفع المعارضة إلى تفسير هذا الحرص، بخوف أردوغان من المساءلة القضائية، بعدما طالته، وعائلته، تهم فساد تمكن من إبعاد خطرها بالتلاعب بالجهاز القضائي وفرض سيطرته عليه.

كذا يعيد المعارضون رغبة أردوغان في فرض نظام رئاسي على تركيا، إلى الخوف نفسه والرغبة في الاحتماء بحصانة رئاسية تمتد، على دورتين رئاسيتين مفترضتين، إلى العام 2024، أي ربما إلى نهاية عمره، إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنه الآن في الثانية والستين من عمره. وغالباً ما يبرر أردوغان، في ظهوراته الإعلامية الكثيفة، تدخله في السياسة التنفيذية بالقول إن «النظام السياسي قد تغير عملياً بعدما تم انتخابه من قبل الشعب مباشرةً» ويتطلب الأمر تكريس هذا التحول في دستور جديد، ونظام سياسي جديد هو النظام الرئاسي على غرار الولايات المتحدة، أو نصف رئاسي على غرار فرنسا.

وإذا نحينا الدوافع الشخصية المذكورة أعلاه لأردوغان جانباً، يبقى أن تبريره هذا، لا يخلو، بصورة مجردة، من الصحة. وهذا ما يعيدنا إلى لحظة انتقال أردوغان من كرسي رئاسة الحكومة إلى كرسي رئاسة الجمهورية. فقد حرص الرجل على «تعيين خلف له» في الأول، في شخص وزير خارجيته السابق، ليكون هذا مجرد موظف تنفيذي لسياساته، سواء في الحكومة أو في رئاسة الحزب الذي استمر أردوغان في قيادته، بشكل غير رسمي، من خلال شبكة الموالاة الشخصية الواسعة التي بناها بدأب، على مدى سنوات، منذ تأسيسه في العام 2001.

وهكذا ارتضى «الخوجة» (الأستاذ) لنفسه هذا الدور التابع، وخاض عمليتين انتخابيتين تشريعيتين تحت الظل الثقيل لـ»معلمه»، ففشل في الأول (حزيران 2015) ونجح في الثاني (تشرين الثاني 2015)، ليتحمل مسؤولية الفشل وحده، ويهدي النجاح إلى معلمه. ولكن يبدو أن هذا النجاح الأخير قد حرض لديه بعض النوازع السلطوية، فدخل في معارك خاسرة مع أردوغان حول تضارب الصلاحيات، من وراء الستار طبعاً، وليس علناً أمام الرأي العام. فـ»الرئيس» الذي انتخبه الشعب (بنسبة 52٪ من أصوات الناخبين) لأول مرة في تاريخ الجمهورية، بات يرى نفسه في موقع تنفيذي أعلى من موقع رئيس الوزراء الذي يفوِّضه البرلمان، في حين تمسك داوود أوغلو بالصلاحيات التقليدية التي يتمتع بها منصبه في النظام البرلماني المعمول به.

صحيح أن القطرة التي جعلت الكيل يطفح، هي انتزاع صلاحيات تعيين القيادات الحزبية المتوسطة من يده، وهو رئيس الحزب، لكن الخلاف الأساسي بين الرجلين يتعلق بموضوع النظام الرئاسي الذي من شأنه أن يجرد رئيس الوزراء من كثير من صلاحياته، أو يلغي المنصب تماماً، كما هي الحال في النظام الرئاسي الأمريكي، وينقل كل السلطة التنفيذية إلى الرئيس. ليس هذا وحسب، بل يبدو أن أردوغان يريد أيضاً إلغاء الحياد السياسي لمنصب الرئاسة، لتتسنى له العودة إلى رئاسة حزبه بصورة رسمية، في نظام رئاسي/حزبي كما في الولايات المتحدة تماماً. فهذا من الاقتراحات المتداولة، هذه الأيام، في إطار النقاش العام حول الدستور الجديد والنظام الرئاسي المقترح.

يراهن أردوغان على دعم حزب الحركة القومية المعارض بقيادة دولت بهتشلي لمشروع الدستور الجديد وتغيير النظام السياسي، بعدما تطابق موقف الحزب الحاكم مع موقف الحزب القومي المتشدد في مواجهة حزب العمال الكردستاني. ويطلق بهتشلي إشارات إيجابية حول قبوله بنظام رئاسي يكرس سلطة أردوغان المطلقة، مقابل تبني الأخير البرنامج القومي المتشدد للأول بحذافيره، في التطبيق العملي. فقد شن أردوغان، بواسطة الحكومة والجيش، حرباً على المناطق الكردية، ما زالت مستمرة منذ شهر تموز الماضي إلى اليوم، دمر خلالها عدداً من المدن الكردية، تذكِّرُ الصور القليلة المتسربة عنها إلى الإعلام بمشاهد الدمار في حمص وحلب وغيرهما من المدن السورية، كان آخرها مدينة نصيبين على تخوم القامشلي السورية.

وإضافة إلى التدمير المنهجي للعمران، ومئات القتلى والجرحى، شهدت تلك المناطق المنكوبة موجات من النزوح بمئات الآلاف، يخشى الكرد أن تكون نقلة جديدة في التغيير الديموغرافي في مناطقهم، بعد نقلة التسعينات. وعلى الضفة السياسية لهذه الحرب، يستعد البرلمان للتصويت على مشروع قانون يتيح رفع الحصانة البرلمانية عن نواب حزب الشعوب الديمقراطي، تمهيداً لطردهم ومحاكمتهم بتهمة «الترويج للإرهاب». الأغلبية المطلوبة في البرلمان لتمرير هذا القانون باتت مضمونة، بانضمام حزب الشعب الجمهوري المعارض إلى «العدالة والتنمية» و»الحركة القومية» في مواجهة «الشعوب الديمقراطي» الذي سيجد نفسه، بعد فترة قصيرة، خارج النظام السياسي.

بإعلان داوود أوغلو نيته في عدم الترشح لرئاسة الحزب، في مؤتمره العام القادم الذي سينعقد أواخر الشهر الجاري، طوت تركيا صفحة مرتبكة من ازدواجية السلطة في تاريخها السياسي. لا يبدو الرأي العام مهتماً بمعرفة اسم الشخص الذي سيخلف «الخوجة» في منصبه. فمهما كان هذا الشخص، لن يعدو كونه موظفاً تنفيذياً تحت قيادة أردوغان، ولفترة قد لا تتجاوز بضعة شهور قبل الذهاب إلى انتخابات مبكرة، أو الاستفتاء على الدستور الجديد.

نقلاً عن "القدس العربى"

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً