يمثل اختيار هلسنكي عاصمة لقمة بوتين- ترامب التي طال انتظارها اعترافا ضمنيا بأن العلاقات الروسية الأمريكية تعيش حربا باردة.
فقد اشتهرت العاصمة الفنلندية، سنوات المواجهة بين الشرق والغرب، بأنها استقبلت وفود العالمين، بحثا عن حلول للمشكلات المستعصية، ولتخفيف حدة التوتر، بين موسكو وواشنطن، وخلفهما حلفي وارسو، والناتو.
وتعتبر الوثيقة الصادرة عن مؤتمر هلسنكي عام 1975 أول اتفاق ينظم أسس التعاون الأمني بين الدول الأوربية ،بعد اتصالات بدأت ربيع العام 1969 وسلسلة مبادرات تعود إلى حقبة الخمسينات مثل خطة وزير الخارجية السوفيتي مولوتوف عام 1954 ونظيره البريطاني أنتوني إيدين في نفس العام ومشروع بولغانين رئيس وزراء الاتحاد السوفييتي عام 1955، وغيرها من المبادرات التي لم تجد آذانا صاغية حتى أواسط السبعينات من القرن الماضي.
وعلى مدى سنوات الحرب الباردة، لعبت فنلندا، دور عامل الإطفاء في تطويق نيران المواجهة، ومنع تحولها إلى مجابهة ، بفضل سياسة الحياد الإيجابي، وموقع هلسنكي في حركة عدم الانحياز، واستضافتها لمؤتمرات السلام العالمية ،ولأنها خارج الحلفين العسكريين الكبيرين لتلك الحقبة، حلف شمال الأطلسي، وحلف وارسو .
ويحتفظ الفنلنديون بالود لروسيا السوفيتية ، التي منحت دولتهم الاستقلال عن الإمبراطورية الروسية؛ بعد استيلاء البلاشفة على السلطة عام 1917 وصدور مرسوم مؤسس الدولة الجديدة فلاديمير إيليتش أوليانوف ( لينين ) مرسومه الشهير بمنح فنلندا الاستقلال في كانون الأول- ديسمبر من نفس الوقت.
وفي الحقبة السوفياتية، كان الظرفاء الروس يطلقون على جارتهم الشمالية فنلندا اسم (خطا لينين) كناية عن منح زعيم البلاشفة الاستقلال للدولة التي شهدت تطورا اقتصاديا واجتماعيا، جعل من شعبها واحدا من أرقى الشعوب، وحققت نموا لم تحلم به شعوب الاتحاد السوفياتي، وجمهورياته الخمسة عشر.
ولولا ( غلطة لينين ) لكانت فنلندا( شقيقة ) تتقاسم معهن الخبز الحاف!
تعيد قمة بوتين – ترامب في العاصمة الفنلندية، سنوات الانفراج في العلاقات السوفيتية الأمريكية، حقبة الزعيم السوفيتي ليونيد بريجنيف والرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون. وبعدها التلاقي بين ميخائيل غورباتشوف ورونالد ريغان، وما بينهما من قمم أخذت الكثير من روح وثيقة هلسنكي للأمن والتعاون الأوروبي، حتى وإن لم تعقد في فنلندا.
ومثلما لم تعلق آمال كبيرة على القمم السوفياتية الأمريكية سنوات الحرب الباردة، في تحقيق اختراق نوعي ينهي المواجهة، يرى محللون أن قمة بوتين ترامب، قد لا تأتي بجديد خارق؛؛
ووفقا لهؤلاء فإن ترامب، يعتقد أنه انتصر على خصومه في الداخل، وتمكن من ( تطويع) الخصم العنيد في الخارج، زعيم كوريا الشمالية، كيم جونغ أون، وأجبره على إطلاق سراح محتجزين أمريكيين لدى الدكتاتور الكوري،وجمد ولو مؤقتا التجارب النووية.
ولا يجد ترامب نفسه محاصرا من الخصوم الذين يتهمونه باتصالات سرية مع الكرملين، لأن التحقيقات لم تتوصل إلى أدلة دامغة ضد ساكن البيت الأبيض.
وحقق ترامب الكثير من الوعود للأمريكيين بإيجاد أربعة ملايين فرصة عمل، وأوقف سيول المهاجرين غير الشرعيين، وغيرها من النجاحات الداخلية التي ينظر لها الأمريكي العادي بعين الاعجاب، ولا يلتفت إلى الخارطة الجيوسياسية العالمية، لأن غالبية الأمريكيين لا يشغلون أنفسهم بها، أمام شاشات التلفزيون وهم يكرزون الجبس!
على المقلب الآخر، يلتقي بوتين نظيره الأمريكي ، والقوات الروسية، تنسحب من سوريا تدريجيا، بعد أن ثبتت أركان نظام الرئيس السوري، بشار الأسد، وأبعدت الخطر عن دمشق تماما، وباتت لاعبا رئيسا في الشرق الأوسط.
ولم تهتز النخبة الروسية للعقوبات الأوروبية والامريكية، ولم يسقط الروبل الروسي، كما كان الرهان، وإن كان يتأثر بهبوط أسعار النفط؛ ولم تضعف شعبية الرئيس بوتين بفعل الأزمات التي تعيشها بلاده، والتي يسود شعور شعبي عام بأنها طارئة، وسوف تنتهي.
ولا يمكن لترامب أن يتوقع من بوتين تنازلات في أهم الملفات التي من المحتمل أن تكون على أجندة القمة؛؛
السوري، وأوكرانيا، وإيران، والعقوبات الأمريكية على روسيا.
وقد يتوصل الرئيسان إلى تفاهم في قضايا الأمن والعودة إلى روح وثيقة هلسنكي، وتعزيز آلية التعاون الأمني بين البلدين الذي لم ينقطع حتى في أسوأ حالات الخلاف بين موسكو وواشنطن، الأمر الذي أكدت عليه مرارا، كبار الشخصيات الأمنية والعسكرية في البلدين.
لن يحبس العالم أنفاسه، وينتظر تحقيق معجزة في هلسنكي، لان موسكو وواشنطن لم تصلا الى حد المجابهة وإن كانتا في حال مواجهة تواصلت منذ ولاية باراك أوباما الثانية، وورثها ترامب .فيما لم يتغير في زي الرئيس الروسي شيء.
ما يزال بوتين يحتفظ بلياقة لاعب الجودو، ينتظر نقطة الضعف في أداء الخصم ليجهز عليه بالضربة القاضية.
ومع ترامب اللعوب، منظم مسابقات الملاكمة وملكات الجمال، قد تتأخر طويلا مثل هذه الفرصة؟