«أحمد عبد الخالق» لم يكن مسئولاً بالدولة ولا شخصًا ذا نفوذ لكنه كان قادرًا على أن يجعل رأس الرئيس ينحني أمامه، ليس تسلطًا لكن بحكم المهنة؛ فلم يخضع رأس الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لغير «مقص» عم أحمد، الذي ظل مشهورًا بأنه «حلاق الأكابر» رغم أن محله في ميدان باب اللوق.
لم يغلق «عم أحمد» أبواب محله الصغير في 11 شارع الفلكي بباب اللوق، الذي يحمل اسم «صالون النصر»، كعلامة مميزة لتلك الفترة الزمنية التي كان يحلق فيها للزعيم، وتستقبلك داخله صورة كبيرة للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وبنفس البالطو الأزرق الفاتح يقف ابنه محمد يفاخر بأنه ورث ميراثًا لا يشاركه فيه أحد وهو التعامل مع الكبار، ليروي لنا تاريخ والده مع عبد الناصر.
كرسي «عبد الناصر» في صالون «النصر» لم يجلس عليه أحد
يقول «عم محمد»: بدأت العلاقة بين والدي والزعيم عبد الناصر بالأصدقاء الذين كانت تربطهم علاقة بالرئيس فكان يحلق عند والدي اللواء فاروق أبو زيد وعلي فوزي يونس محافظ الفيوم حينها، والفريق رفاعي كامل طبيب عبد الناصر، وحلمي عبد الرحمن وزير التخطيط، وعلي فوزي يونس محافظ الفيوم، وأكبر أطباء مصر مثل الدكتور محمد عطية طبيب أنور السادات وناصح أمين دكتور التحاليل الخاص بعبد الناصر ودكتور منصور فايز طبيب القلب ودكتور جبر الذي كان يحضر الدواء للرئيس عبد الناصر، وغيرهم من الشخصيات الهامة، وكل منهم كان يشعر بالراحة في صالون حلاقة والدي لأنه لا يتكلم كثيرًا، وبسبب كلامهم الجيد بدأت العلاقة.
يشير عم محمد على إلى أحد كراسي الحلاقة بالمحل قائلاً: «كان يجلس عليه الزعيم أثناء الحلاقة قبل أن يصبح رئيسًا للجمهورية، ومن حينها وحتى الآن لم يجلس عليه أحد، لذلك لم يشعر بالرهبة أو الارتباك عند الحلاقة له بعد أن تولى منصب الرئاسة، وكان الأمر بالنسبة له عادي على عكس أي حلاق يذهب لأول مرة يحلق لرئيس الجمهورية».
ثقة «عبد الناصر» في «مقص» عبد الخالق
ويذكر أنه كل 21 يومًا كان يأتي اتصالاً تليفونيًا من سكرتارية الرئاسة عن طريق مطعم «الدمياطي» المجاور للصالون، فلم يكن لدى والده تليفون، لتخبر والده أن السيارة ستأتي لتأخذه، وتكون شنطته التي بها عدة الحلاقة هناك، كان الزعيم يختار قصة الشعر الكلاسيكية التي ظهر بها طوال الوقت، وكان يحلق دقنه بنفسه، ولم يقتصر «مقص» عم أحمد على رأس الزعيم للزعيم فحسب ولكنه طال أبنائه خالد وعبد الحكيم وعبد الحميد وكذلك زوج ابنته حاتم صادق.
لم يثق عبد الناصر طيلة 18 عامًا في حلاق غير «عم أحمد»، وعن هذه الفترة يحكي ابنه: «والدي لم يكن ثرثارًا، لا يتكلم ولا يحكي أي كلمة من الحديث الذي دار بينه وبين الرئيس، ظل والدي حلاقًا للرئيس لفترة طويلة دون أن يعلم أحد، ولكن الصدفة جعلت الجميع يعرفون وساقته إلى أن يذهب مع والده إلى منزل الرئيس، ففي أحد الأيام أراد الزعيم أن يحلق وكان يوم إثنين وهو إجازة الحلاقين، فلم تتمكن السكرتارية من الوصول لوالدي عن طريق الاتصال بمطعم «الدمياطي» كالمعتاد، فاقترح أحد مستشاري الرئيس أن يأتوا بحلاقٍ غيره، وعندما فتح الرئيس باب المكتب وجد شخص يرتدي «يونيفورم» الحلاقة وكان ظهره للباب فعلم أنه ليس والدي فأغلق الباب بهدوء، وسأل: أين الحاج أحمد؟، وطلب منهم أن يحضروا والدي، ووالدي لم يكن يذهب للرئيس بـ«اليونيفورم» بل كان يرتدي بدلة وكارفتة أي يذهب رسمي».
ويستطرد: «جاءت سيارة من الرئاسة وسألوا حارس العمارة عن عنوان والدي، وبالفعل ذهبوا إلى منزلنا بسيارة رئاسة الجمهورية، والحراسة تسأل عن والدي فتوقع أهل المنطقة والجيران أن والدي مطلوب أو له علاقة بالسياسة، ولم يكن أحد يعلم علاقته بالرئيس، سألوني «والدك فين؟»، وكان عمري وقتها أحد عشر عاما فقلت لهم عند عمتي في الفجالة، فأخذوني معهم لأدلهم على العنوان وأخذوا والدي وأخذوني معهم حتى ينتهي والدي من الحلاقة للرئيس، وكان الرئيس وقتها في استراحة القناطر، وكنت ألعب في الحديقة حتى أنهى والدي الحلاقة وعدنا إلى البيت».
علاقة الزعيم بعبد الخالق هدايا رمزية.. ومواقف إنسانية.. ولا مجال للواسطة
ما يتذكره ابن حلاق الرئيس عن الزعيم هي تلك الهدايا التي كان يرسلها له مع والده، وكانت أول هدية راديو يعمل بالطاقة الشمسية، ومن الهدايا أيضًا طائرة وكانت أول طائرة بالريموت كنترول، أما نصيب الحاج أحمد من الهدايا كان ساعة يد، أعطاها له عبد الناصر وقال له: «الهند عاملة ساعات ودي أول صناعة هندي».
ويؤكد ابن حلاق الرئيس أن والده لم يطلب أي شيء من الرئيس جمال عبد الناصر، وكذلك الزعيم كان لا يحب الوساطة، فظل عم أحمد ينتظر دخول خط التليفون لمحله أحد عشر عامًا ورفض عبد الناصر أن يتوسط له، إلا في مرة واحدة حين أخبره الحاج أحمد أن ابنته نجحت، فكافئها الرئيس بالتعيين.
وعن مواقفه الإنسانية يقول: «الرئيس كان يعرف أن والدي مثل القطار لا يعرف إلا عمله فقط، فأراد أن يجعله يقضي وقتًا جميلاً، فأخذه مع إلى الإسكندرية بحجة الحلاقة، وبعد ثلاثة أيام أخبره أنه جاء به للترفيهة لا العمل، وسوف يحلق عند عودته إلى القاهرة».
أما طبيعة الحديث بين الزعيم وحلاقه الخاص، يقول عم محمد: «كان يهتم لما يحدث في البلد وما يشغل المواطن البسيط، وكان يريد أن يعرف ما الذي يشتكي منه الناس أو يضايقهم فكان يسأل والدي البطاطس والخضار أخبارهم إيه يا عم أحمد؟ والناس بتشكي من إيه؟».
تأثير «النكسة» على «عبد الناصر»
تأثر حلاق الرئيس كثيرًا بالنكسة، فيذكر عم محمد أن والده بكى خوفًا وحزنًا على الزعيم بعد نكسة 1967، قائلاً: «والدي حكى لي أنه عندما كان يحلق للرئيس بعد النكسة قام بتغيير ثلاث فوط عليه بسبب العرق الغزير الذي كان ينزل من رأسه وكان يدخن كثيرًا وصامتًا لا يتكلم مثل السنين السابقة، وازداد حزن والدي وقت قرار التنحي ورفضه كباقي الشعب المصري الذي أحب عبد الناصر».
تأثير وفاة «عبد الناصر» على حلاقه الخاص
ولآخر مرة.. حلق «عم أحمد» للرئيس الراحل قبل القمة العربية التي كانت في القاهرة، وبعدها بأيام وجد القرآن يُذاع في كل مكان وكان قد توفى يوم إثنين فحزن جدًا، ونزل اليوم التالي في الجنازة وذهب حتى قصر القبة.
وبعد وفاة الزعيم كان عم أحمد عبد الخالق يأتيه معاش من الرئيس عبد الناصر حيث كان يحضر مندوب من رئاسة الجمهورية بالفلوس، وطوال فترة حكم الرئيس السادات كان المعاش مستمرًا لكن بعد وفاة السادات انقطع في أيام مبارك.
في ذكرى الثورة رحل حلاق «عبد الناصر»
ظل حلاق الزعيم وفيًا لعبد الناصر وأسرته، وكان يذهب كل عام لضريح عبد الناصر في ذكراه السنوية، وبعد ستة وعشرين عامًا من وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، وفي الذكرى الرابعة والأربعون لثورة يوليو رحل عم أحمد عبد الخالق حلاق الزعيم عن عمر يناهز الـ 83 عامًا.
نقلا عن العدد الورقي.