ads
ads

أذربيجان على صفيح موسكو الساخن: هل يتكرر سيناريو أوكرانيا في القوقاز؟

فتاة من اذربيجان
فتاة من اذربيجان

تتجه الأنظار إلى منطقة القوقاز حيث تتصاعد التوترات بين روسيا وأذربيجان بشكل غير مسبوق منذ عقود. تعكس هذه الأزمة المعقدة تداخل الحسابات الإقليمية والدولية، بدءًا من الحرب الأوكرانية، وصولاً إلى مشاريع جيوسياسية كبرى تشمل تركيا، إيران، أرمينيا، وحتى إسرائيل، مما ينذر بتورط باكو في مواجهة قد تكون خطيرة مع حليفتها السابقة، روسيا.

شرارة التصعيد: حادثة يكاترينبورج

اندلعت شرارة التوتر في أواخر يونيو الماضي بحادثة أمنية دامية في يكاترينبورج الروسية، حيث قُتل مواطنان أذربيجانيان برصاص القوات الروسية. أعلنت موسكو أن الحادث وقع خلال مداهمة استهدفت "عصابة إجرامية".

غير أن باكو لم تقتنع بالرواية الروسية، وخرجت باتهامات علنية بـ "التعذيب حتى الموت". سرعان ما تحول هذا التصعيد اللفظي إلى خطوات انتقامية من جانب أذربيجان، شملت إغلاق المركز الثقافي الروسي في العاصمة، واعتقال صحفيين يعملون لصالح وكالة "سبوتنيك" الروسية، إلى جانب حظر شامل لوسائل الإعلام الروسية.

تُعد هذه الحادثة أعمق من مجرد خلاف أمني عابر، فقد كانت الأرض مهيأة للاشتعال منذ سقوط طائرة أذربيجانية داخل المجال الجوي الروسي أواخر عام 2024. وقد تحاشت موسكو الاعتذار عن هذه الحادثة، مما ترك ندبة دبلوماسية لم تلتئم بين البلدين.

تحالفات متغيرة: الأجندة التركية-الأذربيجانية والصدام مع المصالح الروسية

في الخلفية، يتحرك تحالف تركي-أذربيجاني بثقة، مستفيدًا من انشغال روسيا بجبهتها الأوكرانية، ومدعومًا بتواطؤ غربي واسع ضد المصالح الروسية، على غرار ما حدث في كييف عام 2014. المفارقة هنا أن أذربيجان، التي كانت تعتمد في السابق على دعم موسكو ضد أرمينيا، أصبحت اليوم أقرب إلى معسكر حلف شمال الأطلسي (الناتو). تقدم باكو الدعم العلني واللوجستي لأوكرانيا، بل وتُتهم بتسهيل عبور أسلحة غربية إلى كييف عبر أراضيها.

من منظور روسيا، فإن ما تقوم به باكو ليس سوى انقلاب كامل في التموضع الجيوسياسي وتخلٍ تام عن التوازن. تُعتبر موسكو أن أذربيجان تنخرط في لعبة أكبر منها، وقد تتحول فيها إلى مجرد أداة بيد واشنطن، لندن، وتل أبيب. تشير تقارير روسية متكررة إلى أن أذربيجان تراهن على "وعد استراتيجي" بمكاسب إقليمية على حساب إيران، ضمن ما يُعرف بخريطة "العقيد بيترز"، التي تقترح سلخ "أذربيجان الشرقية" الإيرانية وضمها إلى باكو. هذا المشهد يعيد إلى الأذهان تفكيك يوغوسلافيا أو العراق، حيث تُستخدم الهويات القومية لتفجير الدول من الداخل.

ممر "زنغزور" والعمق التركي

يحضر العمق التركي بقوة في كل زوايا هذا التصعيد. فمشروع ممر "زنغزور" البري، الذي من المفترض أن يربط أذربيجان بتركيا عبر أرمينيا، ليس مجرد فكرة اقتصادية لتسهيل النقل والتبادل التجاري. إنه، إذا ما تحقق، سيمثل خنجرًا جيوسياسيًا في خاصرة روسيا وإيران. سيُخرج هذا المشروع باكو من عباءة الاعتماد على الممرات الروسية والإيرانية، ويتحول إلى "رئة تركية" في عمق القوقاز، تنافس الممر الروسي-الإيراني الاستراتيجي المعروف بـ "شمال-جنوب". وهذا بحد ذاته كافٍ لإثارة استنفار في الكرملين، ليس فقط بسبب الخسارة الاقتصادية، بل لما يعنيه من إضعاف لنفوذ موسكو في منطقة تُعد تقليديًا ضمن فضائها الحيوي ما بعد السوفييتي.

دور تركيا ومخاطر التصعيد الاقتصادي

يسعى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى التلاعب بالمسافات، مقدمًا نفسه وسيطًا بين "أصدقاء"، لكن واقع التحالفات يُظهر أن أنقرة أقرب إلى باكو اليوم أكثر من أي وقت مضى، سواء عسكريًا، اقتصاديًا، أو حتى أيديولوجيًا.

خطوط الغاز (TANAP) التي تمر عبر أذربيجان باتجاه أوروبا، والمشتريات الدفاعية الضخمة، والتنسيق الاستخباراتي المشترك، كلها مؤشرات على أن تركيا تسعى إلى رسم خارطة جديدة للقوقاز. هذه الخارطة تهدف إلى تقليص الدور الروسي، إضعاف الوجود الإيراني، وفتح الباب أمام مشاريع توسعية قد تتجاوز الممرات لتصل إلى الحدود، وربما إلى ما هو أبعد.

الأخطر من ذلك كله، أن هذا التوتر يهدد أحد أهم شرايين روسيا الاقتصادية المفتوحة: الممر البحري-البري الذي يربطها بإيران عبر بحر قزوين، ثم إلى الخليج. ففي زمن العقوبات الغربية، أصبح هذا الممر شريان حياة لموسكو. وإذا ما تعطل بسبب تصعيد مع أذربيجان، فقد يؤدي ذلك إلى أزمة اقتصادية جديدة لروسيا، خاصة وأن أوروبا تتسابق لفك ارتباطها بها في مجالي الطاقة والتجارة.

سيناريوهات المستقبل: تجنب المواجهة المباشرة والمخاطر الاستراتيجية

حتى الآن، لا يبدو أن سيناريو المواجهة المباشرة مطروح على الطاولة، لكن بعض التصريحات الروسية تشير إلى تحول في المزاج السياسي في موسكو. فالحديث عن أن أذربيجان لم تعد آمنة للروس، والتلميحات إلى ردود "قاسية" قيد الإعداد، ليست عبثًا. موسكو، التي خبرت جيدًا كيفية إدارة الحروب بالوكالة، تدرك تمامًا أن التهاون في هذه المرحلة قد يفتح بوابة جديدة للاستنزاف، هذه المرة في قلب القوقاز.

من هنا، تبدو الأزمة الروسية-الأذربيجانية أكثر من مجرد أزمة دبلوماسية عابرة، بل "خطأ أذربيجاني". يبدو أن الاندفاعة الأذربيجانية نحو التصعيد مع موسكو تعكس قصر نظر استراتيجي غير مسبوق. فبدلاً من أن تُحسن باكو قراءة التوازنات الجديدة وتتجنب الدخول في مواجهة مع قوة عظمى مثل روسيا، اختارت التشكيك في نوايا الكرملين ورفضت حتى مجرد الإصغاء لوجهة نظره، خصوصًا فيما يتعلق بحادثة يكاترينبورغ أو التوازنات الإقليمية الحساسة.

يبدو أن الرئيس إلهام علييف، مدفوعًا بنشوة النصر على أرمينيا واستعادة السيطرة على ناغورنو قره باغ، بات يعتقد أنه بوسعه فرض إملاءاته على من هم أكبر من بلاده نفوذًا وقدرة. هذا يمثل خطأ فادحًا في الحساب، لأن روسيا، اليوم، برغم انشغالها في أوكرانيا، لن تسمح لأحد بالعبث بمصالحها الحيوية في القوقاز، أو بتحويل جوارها الجغرافي إلى "منصة" لصالح خصومها.

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً