نواصل عرض أهم أحكام محكمة العدل الدولية من خلال أحدث دراسات الفقيه المصرى المستشار الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجى نائب رئيس مجلس الدولة المصرى المعروف بأبحاثه العلمية الوطنية بعنوان: "مسئولية الأمم المتحدة وحقوق مصر التاريخية فى مياه نهر النيل والاستقرار القضائى لمحكمة العدل الدولية توثيق لعداون إثيوبيا على قواعد الأنهار.. دراسة تحليلية فى ضوء تدخل الأمم المتحدة فى النزاعات المائية النظيرة حماية للدول المتشاطئة من الإضرار بها والمبادئ التى استنتها محكمة العدل الدولية فى وحدة المصالح للمجارى المائية لبيان عدوان إثيوبيا على مياه نهر النيل"، وهو الموضوع الذى توليه مصر موضع الأهمية القصوى ويشغل بال المجتمع الدولى ويؤثر على استقرار المنطقة بأكملها , ونظرا لما تعرضه إثيوبيا من مغالطات للمجتمع الدولى وجب تنوير الرأى العام العربى والإفريقى والعالمى وفقا لقواعد العلم القانونى والانصاف والتاريخ وأحكام محكمة العدل الدولية.
ويعرض الفقيه الدكتور محمد خفاجى لثلاثة مبادئ حديثة لمحكمة العدل الدولية تؤيد حقوق مصر أولها: استثمار الطاقة لا يخل بالملكية المشتركة للدول المتشاطئة دون تفرد مؤذى أو انفراد أحادى، وثانيها التوفيق بين التنمية الاقتصادية وحماية البيئة يتقيد بالاستخدام العادل والمعقول فى النهر الدولى، وثالثها شرط إنتاج الطاقة الكهرومائية الالتزام بحجم المياه وجودتها وحماية طبيعته وبقواعد القانون البيئي الدولي ومبادئ قانون المجاري المائية الدولية (التاريخ خير شاهد على الحل المرضى للدول المتشاطئة)، وذلك من خلال تحليله لقضية مشروع جابتشيكوفو - نيجماروس Gabcikovo-Nagymaros project بين المجر وتشيكوسلوفاكيا على نهر الدانوب عام 1997.
ويقول الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجى أن محكمة العدل الدولية - وهي أعلى هيئة قضائية في منظومة الأمم المتحدة تفصل في النزاعات القانونية بين الدول التي يجب أن توافق على الالتزام باختصاص المحكمة قبل النظر في قضيتها- أصدرت حكماً بتاريخ 25 سبتمبر عام 1997 يعبر عن الاستقرار القضائى الدولى بضرورة التوفيق بين التنمية الاقتصادية وحماية البيئة بالاستخدام العادل والمعقول فى قضية مشروع مشروع جابتشيكوفو - نيجماروس Gabcikovo-Nagymaros project بين المجر وتشيكوسلوفاكيا على نهر الدانوب , ويمكن تلخيص وقائع النزاع الدولى النهرى أن خلافاً نشب بين المجر وتشيكوسلوفاكيا حول إنشاء قنطرتين بصفة مشتركة على نهر الدانوب ، بمقتضى معاهدة أبرمت بينهما عام 1977، ونظمت الدولتان تسوية الخلافات الناشئة بينهما بشأن تشغيل القنطرتين ، وكيفية توليد الطاقة منها , بيد أن المجر اعترضت على المشروع عند بدء أعمال التشييد، بسبب نظرتها فى بعض المخاوف البيئية ، مما ترتب عليه إيقاف المشروع عام 1989 وأصر كل طرف منهما على وجهة نظره.
وأضاف الدكتور محمد خفاجى أنه على الرغم من ذلك فإن تشيكوسلوفاكيا قررت بقرار أحادى الجانب تنفيذ المشروع داخل حدودها الإقليمية، وقد فسرته المجر بأن ذلك يعنى تحويل ما يقرب من 80% إلى 90% من المياه المشتركة بينهما وعلى ضوء ذلك قامت المجر في مواجهة هذا الموقف بإعلانها إنهاء المعاهدة من طرف واحد، باعتبار أنها الأساس الوحيد الذي سمح لتشيكوسلوفاكيا بالمضي قدما في إقامة المشروع، وحدث تغير عام 1992 حيث انقسمت تشيكوسلوفاكيا، وآلت ملكية جزء تشيكوسلوفاكيا في أكتوبر 1992 بردم نهر الدانوب، وتحويل ما يزيد عن 80% من مياهه إلى قناة جانبية في الأ راضي السلوفاكية وتأزم الموقف وتمت إحالة النزاع باتفاقهما فى أبريل 1993 إلى محكمة العدل الدولية.
وأشار الدكتور محمد خفاجى إلى أن محكمة العدل الدولية أصدرت حكمها فى هذا النزاع فى 25 سبتمبر 1997 أكدت فيه على ضرورة التوفيق بين التنمية الاقتصادية و حماية البيئة , وهو ما يتعين معه إعادة النظر إلى آثار تشغيل محطة جابيتشيكوفو المتعلقة بتوليد الطاقة على البيئة , وأنه يجب على الدولتين سلوك نتيجة مرضية وعادلة عن حجم الماء الذي سيطلق في المجرى القديم لنهر الدانوب و إلى الذراعين على جانبى النهر، وأكدت محكمة العدل الدولية تطبيق نظرية "وحدة المصالح" التي استعملت أول مرة في قضية نهر الأودر حيث وسعت من نطاق تطبيقها ليتضمن الاستخدامات غير الملاحية للمجاري المائية الدولية، مع اقتران ذلك بمبدأ الاستخدام العادل والمعقول للنهر المشترك حال إقامة أية مشروعات لإحدى الدول.
وأضاف أن المحكمة ركزت على أن المجر لم يكن من حقها التوقف والتخلي عن الأعمال المتعلقة بمشروع ناجيمارو Nagymaro، وأن تشيكوسلوفاكيا كان من حقها أن تبدأ في تنفيذ "Variantc" عام 1991 لكن ليس من حقها تشغيله في أكتوبر 1992 وأنه لا يجوز للمجر إنهاء المعاهدة بإرادتها المنفردة، وانتهت المحكمة إلى أن معاهدة استخدام المجاري المائية في الأغراض غير الملاحية عام 1997 جاءت متسقة مع الأحكام الواردة باتفاقية فيينا لعام 1978 المتعلقة بالتوارث الدولي.
ويذكر الدكتور محمد خفاجى أن حكم محكمة العدل الدولية بين المجر وتشيكوسلوفاكيا على نهر الدانوب فى قضية مشروع (Gabcíkovo – Nagymaros) الصادر في 25 سبتمبر 1997 يرجع إلى اتفاقية معاهدة 1977 بإنشاء وتشغيل نظام الأقفال من قبل الأطراف "كاستثمار مشترك". وفقًا لديباجته، وتم تصميم النظام لتحقيق الاستخدام الواسع للموارد الطبيعية لنهر الدانوب لتنمية الموارد المائية والطاقة والنقل والزراعة وغيرها من قطاعات الاقتصاد الوطني للأطراف المتعاقدة، وبالتالي كان الاستثمار المشترك يهدف بشكل أساسي إلى إنتاج الطاقة الكهرومائية، وتحسين الملاحة في القسم ذي الصلة من نهر الدانوب وحماية المناطق على طول الضفاف من الفيضانات, في ذات الوقت بموجب شروط المعاهدة، تعهدت الأطراف المتعاقدة بضمان عدم تضرر جودة المياه في نهر الدانوب نتيجة للمشروع، وأنه سيتم مراعاة الامتثال لالتزامات حماية الطبيعة الناشئة فيما يتعلق ببناء وتشغيل نظام الأقفال.
وكشفت أوراق النزاع النهرى أن معاهدة عام 1977 تنص على بناء سلسلتين من الأقفال، واحدة في غابسيكوفو في إقليم تشيكوسلوفاكيا والأخرى في ناغيماروس في الأراضي المجرية ، لتشكيل "نظام تشغيل واحد غير قابل للتجزئة".
كما نصت المعاهدة على أن المواصفات الفنية المتعلقة بالنظام سيتم تضمينها في "الخطة التعاقدية المشتركة" التي كان من المقرر وضعها وفقًا للاتفاقية الموقعة من قبل الحكومتين لهذا الغرض في 6 مايو 1976، كما نصت على بناء وتمويل وإدارة الأعمال على أساس مشترك شارك فيه الطرفان على قدم المساواة.
وأوضح أنه ثبت أمام محكمة العدل الدولية حقيقة أن سلوفاكيا أصبحت دولة مستقلة في 1 يناير 1993؛ ثم وقعت اتفاقية خاصة أبرمت بعد ذلك بين المجر وسلوفاكيا ، تم التوقيع عليها في بروكسل في 7 أبريل 1993 ، اتفق الطرفان على إنشاء وتنفيذ نظام مؤقت لإدارة المياه لنهر الدانوب؛ وفيما يتعلق بحل تشيكوسلوفاكيا، وجدت المحكمة أن معاهدة عام 1977 أنشأت حقوقًا والتزامات "مرتبطة" بأجزاء نهر الدانوب التي تتعلق بها؛ وبالتالي لا يمكن أن تتأثر المعاهدة نفسها بخلافة الدول، ومن ثم خلصت المحكمة إلى أن معاهدة 1977 أصبحت ملزمة لسلوفاكيا في 1 يناير 1993.
ويضيف أن المحكمة أشارت إلى أن معاهدة 1977 ليست فقط مشروعًا استثماريًا مشتركًا لإنتاج الطاقة ، ولكنها صُممت لخدمة أهداف أخرى أيضًا تتمثل فى تحسين القدرة على الملاحة في نهر الدانوب ، والتحكم في الفيضانات وتنظيم تصريف الجليد ، وحماية البيئة الطبيعية. من أجل تحقيق هذه الأهداف ، لذا ارتأت المحكمة أن الأطراف ملزمة قانونًا ، أثناء المفاوضات التي ستجرى بموجب المادة 5 من الاتفاقية الخاصة النظر في سياق معاهدة 1977 ، فمن الواضح أن تأثير المشروع على البيئة وانعكاساته عليها هو بالضرورة قضية رئيسية. والتقارير العلمية العديدة التي قدمها الأطراف إلى المحكمة - حتى لو كانت استنتاج كل طرف متناقضة في كثير من الأحيان - توفر أدلة وفيرة على أن هذا التأثير البيئى , ومن أجل تقييم المخاطر البيئية ليس فقط من خلال صياغة المادتين 15 و 19 ، بل يُنص عليه أيضًا ، إلى الحد الذي تفرض فيه هاتان المادتان التزامًا مستمرًا - وبالتالي متطورًا بالضرورة - على الأطراف للحفاظ على جودة مياه نهر الدانوب وحماية طبيعته , وذكرت المحكمة أنها تدرك أنه في مجال حماية البيئة ، فإن اليقظة والوقاية مطلوبان تلافيا للضرر الذي سيلحق بالبيئة والقيود الملازمة لآلية جبر هذا النوع من الضرر.
ويذكر أن التاريخ خير شاهد على فكرة الحل المرضى للدول المتشاطئة , فعلى مر العصور تدخلت البشرية باستمرار في الطبيعة لأسباب اقتصادية ولأسباب أخرى في الماضي ، كان هذا يتم غالبًا دون مراعاة التأثيرات على البيئة, ونظراً لتطور التقدم التقنى بسبب الرؤى العلمية الجديدة والوعي المتزايد بالمخاطر التي تتعرض لها البشرية - للأجيال الحالية والمقبلة - تم تطوير قواعد ومعايير جديدة خلال العقدين الماضيين. ويجب أن تؤخذ هذه القواعد الجديدة في الاعتبار ، وإعطاء هذه المعايير الجديدة الوزن المناسب ، ليس فقط عندما تفكر الدول في أنشطة جديدة ولكن أيضًا عند الاستمرار في الأنشطة التي بدأت في الماضي ،وهذا يعني أنه يجب على الطرفين معا النظر من جديد في الآثار على البيئة لتشغيل محطة توليد الكهرباء في غابتشيكوفو. و يجب أن يجد كلاهما حلاً مرضيًا لحجم الماء الذي سيتم إطلاقه في قاع نهر الدانوب القديم وفي الأذرع الجانبية على جانبي النهر.
ويوضح أن المحكمة ذكرت أنه ليس لها تحدد النتيجة النهائية لهذه المفاوضات التي سيجريها الطرفان , بل يكون للأطراف أنفسهم أن يجدوا حلاً متفقًا عليه يأخذ في الاعتبار أهداف المعاهدة بطريقة مشتركة ومتكاملة ، بالإضافة إلى قواعد القانون البيئي الدولي ومبادئ قانون المجاري المائية الدولية , ودللت المحكمة في هذا السياق - كما جاء في قضايا الجرف القاري لبحر الشمال – قولها السابق : " يلتزم الأطراف بأن يتصرفوا بأنفسهم بأن المفاوضات ذات مغزى ، ولن يكون الأمر كذلك عندما يصر أي منهما على موقفه دون التفكير في أي تعديل له" ( يراجع تقارير محكمة العدل الدولية 1969 ، ص 47 ، الفقرة 85)
ويشير إلى أن المحكمة تعرضت للقاعدة السائدة وهى العقد شريعة المتعاقدين وكما هو مبين في المادة 26 من اتفاقية فيينا لعام 1969 بشأن قانون المعاهدات ، وتتمثل فى أن يجد الطرفان حلاً متفقًا عليه في السياق التعاوني للمعاهدة. حيث تجمع المادة 26 بين عنصرين متساويين في الأهمية بقولها " كل معاهدة سارية ملزمة للأطراف فيها ويجب عليهم تنفيذها بحسن نية". وهذا العنصر الأخير ، في تقدير المحكمة يعني ضمناً أن الغرض من المعاهدة ، ونوايا الأطراف في إبرامها ، هي التي يجب أن تكون لها الغلبة على تطبيقها الحرفي. حيث يُلزم مبدأ حسن النية الأطراف بتطبيقه بطريقة معقولة وبطريقة يمكن تحقيق غرضها.
واختتم الدكتور خفاجى أن محكمة العدل الدولية تعرضت لفكرة الملكية المشتركة وقارنتها بفكرة استثمار الطاقة دون انفراد أحادى أو تفرد مؤذى للدول المتشاطئة؛ إذ لاحظت المحكمة أن معاهدة 1977 لا تحتوي على برنامج استثمار مشترك فحسب، بل إنها تنشئ أيضًا نظامًا لذلك فوفقًا للمعاهدة، فإن الهياكل الرئيسية لنظام الأقفال هي ملكية مشتركة للطرفين؛ ستأخذ عملياتهم شكل وحدة مفردة منسقة ؛ وسيتم تقاسم فوائد المشروع بالتساوي؛ وإذ وجدت المحكمة أن المعاهدة لا تزال سارية وأن النظام المشترك، بموجب شروطها ، هو عنصر أساسي، ورأت أنه ما لم يتفق الطرفان على خلاف ذلك، فمن ثم يجب استعادة هذا النظام، ذلك أن الأشغال في كونوفو يجب أن تصبح وحدة تعمل بشكل مشترك بالمعنى المقصود في الفقرة 1 من المادة 10، نظرًا لدورها المحوري في تشغيل ما تبقى من المشروع وفي نظام إدارة المياه، وذلك سيعكس إعادة إنشاء النظام المشترك بطريقة مثلى عن مفهوم الاستخدام المشترك لموارد المياه المشتركة لتحقيق الأهداف العديدة المذكورة في المعاهدة، بما يتوافق مع الفقرة 2 من المادة 5 من اتفاقية القانون بشأن الاستخدامات غير الملاحية للمجاري المائية الدولية، والتي بموجبها: "تشارك دول المجرى المائي في استخدام المجرى المائي الدولي وتنميته وحمايته بطريقة منصفة ومعقولة، وتشمل هذه المشاركة كلاً من الحق في استخدام المجرى المائي وواجب التعاون في حمايته وتنميته، على النحو المنصوص عليه في هذه الاتفاقية (يراجع فى ذلك الجمعية العامة، الوثيقة A / 51/869 المؤرخة 11 أبريل 1997)".