100 عام من «الحواوشي».. وأنا هنا ساخر من نفسي ومنك، إذ أقدح فيمن تضطر إجبارا وجبرا أن تتعامل معهم، فأنت مطالب طوال الوقت أن تشرح وتعلّم، كأنك في تيه من الفوضى والجهل، بينما من يحيون في «الحواوشي»، ليسوا مطالبين بالاستيعاب أو الفهم، إذ يأتيهم «العليق» جاهزا دون كلفة، ويزينهم «الصيت الفارغ»، عبر مسار أجوف لا تعب فيه ولا نصب.. وحديث الحواوشي لمن لا يفهم، هو تعبير من الصديق والزميل أحمد رجب يصف فيه من لا فقه لهم ولا جهد، فإذا ما كانوا جزءا من منظومة أفسدوها، وأصابوها بتخمة وبلادة وسفه.
وبالحق أقول، إن الفهم والعزم والعلم أمور صعبة الاكتساب على هؤلاء، فهي فضائل راسخة مع التربية، وصفات ثابتة مع البيئة، التي جبُل فيها الإنسان، فإذا نشأت متواكلا، معتمدا على الآخرين في الترقي والتحضر، فلن تكتسب إلا قلة المروءة والتخاذل والكسل، بل فوق هذا إذا انصهرت صفاتك تلك في منظومة إنتاج، فإنك ستخلّف لدى من يعايشون وجودك، سخطا وكرها ونقمة، وستمنحهم صك المغادرة والهروب من أفقك الضيق ودائرتك السوداء القاتمة.
في 7 أغسطس سنة 1493، نسبت لعائشة أم الأمير أبي عبد الله الصغير، آخر ملوك الأندلس، مقولة «نعم، ابكِ كالنساءِ ملكاً لم تدافع عنه كالرجال»، بعد بكاء الأمير على تسليم مفاتيح غرناطة لـ الملك فرناندو والملكة إيزابيلا، ويستدل بها الناس، على أن سقوط أصحاب القرار في مأزق الاعتماد على أنصاف النابهين، إنما يهدد بضياع تاريخ كامل، وربما مستقبل مجيد، في حين أن مبعث المقولة المدسوسة تاريخيا، هو أنطونيو جيفارا الذي يعتبر الأب الروحي لفكرة تفوق العنصر الأوروبي، والذي يرى في معظم ما دسه من أفكار وأقاويل، أن أساس الحفاظ على مجتمعات العمل هو العزم الذي يستطيل، والعلم الذي يبحر، والفهم الذي يقود، وخلاف تلك الأسس ما يهبط بالحضارات ويسقط بالأمم.
وإرضاء للزميل صاحب «نظرية الحواوشي»، فإني سأسحب ذلك التصور، على ما نعانيه في مهنة الكتابة والصحافة، إذ عانينا القبح بأنفسنا مرارا في كل «محل بقالة» عملنا به، ومحل البقالة الذي يبيع للناس الأخبار مليئة بالإسفاف ثم ينشر لبعض «السفهاء» مقالات في «حانوته»، باعتبارهم كتابا، يكتبون كلمة «ذراع» بالزين، يستحق الغلق بقرار إداري عاجل من وزارة الصحة، لأن لحم «الحمير» المذبوحة على عتباته، في كل خبر، يسبب للقراء جنونا عاما.
أخشى القول بأن لحم الحمير لم يكن سيئا على أمعاء بعض أرباب مهنة الصحافة، الذين رأوا في آلاف الأطنان منه حلا ناجعا يطفئ جوع القارئ من «اللحم الرخيص»، هؤلاء بعينهم وجدوا، إداريا، في تمكين أنصاف المواهب والاتكاء عليهم، فرصة لاستنزاف طاقة الموهوبين.. تاجروا بالغش والجهل لتحقيق مآربهم واستغلوا «حاجات» صحفييهم، لإذلالهم، وسحق سواعدهم التي أنهكها حمل «القلم» غصبا.
الصحفيون كانوا أمام احتياجهم للمهنة التي أدمنوها بلا حول ولا قوة، وكانوا على غير العادة جبناء في تقرير مصائرهم، واختاروا أقرب الطرق لتحقيق أحلامهم، وتحملوا على مضض منهم «خضوع» السير أمام الآخذين بناصية التحكم، بلا دليل لنهاية الدرب، وبلا وعد يشفي من صدورهم حنق قسوة الطريق، وبلا طعام يقيم صلبهم، إلا فتات من بقايا «الحواوشي».