عشر سنوات قضاها وحيدًا بعد وفاة زوجته ورفيقة نضاله، عاش أياما عصيبة، لم تغب عن ذاكرته لحظة، فكيف تغيب وهى كما وصفها قلبه النابض وعينيه التى كان يبصر بها، لم يترك عش الزوجية التى جمع بينهما على الرغم من إلحاح أولاده ليعيش معهم، حتى حانت لحظة النهاية، ليلحق، أخيرا، البطل الفدائي قائد المقاومة الشعبية ببورسعيد خلال العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 محمد مهران، بزوجته حميدة حسن إسماعيل، بعد أن وافته المنية، مساء أمس.
'كيف أترك المكان الذى أعيش فيه ذكرياتى معها، فهنا كانت تجلس وهناك كانت تقف، وكل ركن من أركانه كانت تضع لى علامة فيه كى أستطيع أن أسير فيه وكأننى مبصر فلم أشعر بأننى أعمى إلا يوم وفاتها'..
شهادة عرفان سردها الفدائي البطل محمد مهران، فى حوار لـ'أهل مصر' قبل وفاته، عن زوجته التي رافقته حياته لحظة بلحظة، وضحّت من أجل أن تجد السعادة تغمر حياته ولم يشعر بأنه انتزع منه بصره إلا عندما توفيت.
ذكر مهران أنه تزوج فى 14 نوفمبر عام 1957، وتوفيت زوجته يوم الإثنين الموافق 11 يناير عام 2011، فقال البطل البورسعيدى إنه مر على زواجهما أربعة وخمسون عاما، مضيفا: لم أشعر أننى فقدت بصرى إلا يوم موت زوجتى، يوم وفاتها شعرت بأننى أعمى، وانكسر قلبى.
هكذا لخص الفدائي محمد مهران قصة كفاح زوجته الحاجة حميدة حسن إسماعيل.
وقال مهران: بدأت حميدة حياتها العملية فى مهنة التمريض، وعند قيام العدوان الثلاثى كانت تؤدى دورها الإنساني بنجاح مع غيرها من فئات الممرضات وكن جميعا جنديات مجهولات لكثير منهن بطولات لكن لم تسلط الأضواء عليهن، فعملهن كان وسط النيران وتحت قصف المدافع والطائرات ولم يتركن مواقعهن مثل جندى الميدان.
قصة حب انتهت اليوم باللقاء
ذات يوم، سمعت الآنسة حميدة أول حديث اذاعي للبطل محمد مهران أجراه فهمى عمر، وسعد لبيب، من إذاعة القاهرة وكان وقتها تم تهريبه من بورسعيد فى زمن العدوان وأقام بالمستشفى العسكرى العام بكوبرى القبة بالقاهرة، وفور سماعها ملحمة البطل مهران، حررت خطابا للرئيس جمال عبد الناصر تعرض فيه وبإلحاح قبول تبرعها بإحدى عينيها لهذا البطل، كما حررت خطابات مماثلة للدكتور نور الدين طراف وزير الصحة في ذلك الوقت، واللواءين الطبيبين عبد الوهاب شكرى، ومحمد نصار، مدير الخدمات الطبية بالقوات المسلحة ونائبه، والسيدة علية الفار، رئيس الهلال الأحمر.
لم يكن يربطها بمهران سوى أنها مواطنة بورسعيدية محبة لمصر، ولم تكتف بتحريرها خطابات للمسؤولين، بل قامت أيضا بتحرير خطاب يحمل نفس الشعور للبطل مهران، وفى أوائل سنة 1957 ظهرت بعض الصحف والمجلات المصرية، وبالأخص مجلة روز اليوسف تحمل عنوان 'الدكتور نور الدين طراف فى حيرة هذه الأيام'، ولخصت موضوع التبرع بالعين المقدمة من الآنسة حميدة حسن إسماعيل.
رحل بطل المقاومة الشعبية فى بورسعيد
كما اتصلت بأحمد سعيد مدير إذاعة صوت العرب فى ذلك الوقت، لبذل مساع كبيرة لقبول هذا الطلب، فرد عليها البطل مهران والمسؤلون معربين لها عن شكرهم على هذا الشعور الوطنى الصادق، فلم تكتف بذلك بل اتجهت للمستشفى العسكرى العام بالقاهرة لمقابلة البطل مهران لإقناعه بقبول تبرعها، وألحت عليه أن يقبل طلبها فما كان منه إلا أن شكرها على تلك المبادرة الجميلة.
كان البطل مهران يتخذ اللواء طبيب عبد الوهاب شكرى أبًا روحيا له وصديقا حميما، فلما عرض عليه قصة إلحاح حميدة بالتبرع بعينها لم يكن جوابه إلا أن قال له إن كنت تعتبرنى والدك بحق تزوج هذه الفتاة لأنها ستكون لك خير عون وتعوضك عن عينيك، وبالفعل تم زواجهما فى نوفمبر 1957 وكانت له بالفعل بصره وبصيرته.
وذكر مهران أن زوجته كانت عينيه التى يرى بهما، فكانت تصف له كل شيء، وكانت ترافقه أثناء التهجير، تعود به من رأس البر ليتفقد العديد من مواقع الجنود ببورسعيد أثناء حرب أكتوبر 1973 بلا كلل ولا ملل، من أجل أن يبث هذا البطل الروح المعنوية فى الجنود.
وكان الفدائى مهران يتمنى عودة بصره لسبب وحيد، إذ أكد أنه ما تمنى أن يكون له عين يرى بها يوما، ولكنه يتمنى فقط أن يرى زوجته.