منذ مئات السنين وتشتهر محافظة قنا، بصناعة الأواني الفخارية بمختلف أشكالها وأنواعها، والكثير من بينها تم هجره ومنها الذي أوشك على الاندثار، بسبب ما تتعرض له الصناعات من تطورات تفوق قدرات صانعيها، أو بسبب الإهمال الذي يلاحقها وعدم إقبال المواطنين على شرائها واستبدالها بأواني الألومنيوم والاستلس، ومن بين هذه الأواني الزير الفخاري، والذي كان أداة أساسية داخل كل منزل بالمحافظة، للحفاظ على مياه نقية خالية من الشوائب والسموم.
عُرف الزير الفخاري بـ 'ثلاجة الفقراء' بعد صناعة الثلاجات الكهربائية والكولمان والأجهزة الأخرى التي ظهرت لتبريد المياه، فما بقي على استخدام الزير سوى الأسر الفقيرة التي لا تسطتيع شراء تلك الأجهزة وكبار السن الذين اعتادوا على شرب المياه من داخله منذ بداية حياتهم، فصناعة الزير كانت منتشرة بكثرة في مختلف قرى ومراكز قنا فالبعض هجرها والبعض صارع وقاوم للحفاظ عليها من الاندثار، كونها مهنته التي ورثها عن والده وأجداده ولا يعلم شيء سواها، كما يوجد حاليًا في مركز نقادة، غرب محافظة قنا، والذي سوف نشاهد السر وراء التمسك بصناعته حتى الآن خلال الفقرات التالية.
ما إن تطأ قدم أحد نجع الشيخ علي، بمركز نقادة، إلا ويرى الأزيار الفخارية المحروقة واللينة مصفوفة أمامه من جميع الجوانب، يُشعر المار بمنتصفهم بالبهجة والحنين للصناعات الفخارية التي كانت سائدة قديمًا بكثرة، حتى يصل إلى صانعها العم عبدالحميد محمود، صاحب الـ50 عامًا، وهو يقف على آلته داخل مكان واسع غير آدمي ليس له سور معرش أجزاء منه بالقش وجريد النخيل لحمايتهم من درجة الحرارة أثناء صناعة الأزيار الفخارية.
قال العم عبدالحميد، إن قصته بدأت مع صناعة الزير الفخاري، منذ طفولته تعلمها على يد والده، وبعد وفاته استكمل مسيرته ومسيرة أجداده، ظل سنوات طويلة يصنعها ذات المكان الذي تعملها بداخله، ثم قرر الانتقال منه كونه ضيق ولا يتسع لصناعته التي يمارسها يوميًا، ليكمل صناعته داخل مكانه الحالي الذي اشتهر فيه شهرة واسعة بأقدم صانع للأزيار الفخارية، وسعيد بمهنته ويصارع يوميًا للإحياء بها رغم أنه لا يلجأ إلى تطويرها فقط يصنع الشكل الذي نشأ عليه الزير العادي الذي ليس له أي أدوات سوى غطاء لحماية المياه بداخله.
وأضاف أشهر صانع لثلاجة الفقراء، أنه يبدأ يومه بجمع الطمي من على جوانب الترع في الساعة السادسة صباحًا قبل طلوع الشمس، يقوم بتنظيفه من الأشواك والزجاج ثم يحمله على عربته الكارو بمساعدة نجله الذي علمه صناعة الزير الفخاري، ويتجه إلى مأوى صناعته ليطحن الطمي ويضعه داخل حوض ملئ بالمياه حتى يصبح الطمي مناسب للفرك والتدليك ليبدأ بعدها عملية صناعة الزير الذي تقوم على ثلاثة مراحل، 'الأولى تحضير الطين ثم تركه يومًا كاملاً ليختمر، وفى المرحلة الثانية تتم صناعة قاعدة الزير التى تحتاج يومًا كاملاً كى تجف وتتماسك، ثم تأتى المرحلة الثالثة وهى صناعة فوهة الزير والتي تجف أيضًا بعد يومًا كاملًا، بعدها تأتى مرحلة التحميص فى الفرن والتى تعتبر آخر مرحلة فى صناعة الزير'، فمراحل صناعة الزير تأخذ 4 أيام معه في فصل الصيف وأسبوعًا كاملًا في الشتاء.
وأوضح العم عبدالحميد، أنه ما زال حتى الآن الإقبال شديد على شراء الزير الفخاري، وهناك أسر لا تشرب المياه سوى منه، ويساعد نفسه في ترويج منتجاته بالسفر إلى أسوان لبيعها بكميات كبيرة فهناك قرى كاملة لا تستعمل سوى الزير الفخاري رغم ظهور الأجهزة الكهربائية وتطور الزير إلى كولمان بالفخار، إلا أنه لم يلجأ لصناعته سوى عند الطلب عليه غير ذلك يصنع الشكل القديم الذي اعتاد عليه، مشيرًا أنه يصنع 30 زيرًا يوميًا بمساعده نجله الذي شربه صنعته ليكمل مسيرته فيما بعد.
وذكر أشهر صانع للزير الفخاري في قنا، أنه لا يواجهه مشاكل في مهنته أثناء الصناعة، سوى محاضر البيئة كونه يعمل وسط منطقة سكانية ويتسبب الحريق في التلوث وإصابة الأطفال بالأمراض، لكن ليس ذلك عائق منه ولكن تقاعس المسئولين عن تسليمهم القرية التي خُصصت لصناعة الأواني الفخارية منذ عام 2010 في عهد اللواء عادل لبيب محافظ قنا الأسبق، لذلك ينشاد صانع الزير الفخاري، محافظ قنا الحالي بالنظر إليهم وتسليمهم الأرض المخصصة لهم لتصنيع متتجاتهم والاستمرار في مهنهم التراثية حتى تندثر مثل سابقيها.